مشعل أبا الودع

يولد الإنسان ويجوب الأرض شمالا وجنوبا بحثا عما يشعره بالرضا عن ذاته وإنجازاتها المتراكمة على العمر والزمن. وخلال رحلته هذه تحدث مجموعة من الاصطدامات بين الرغبات والحاجات وبرمجة المجتمع وتوقعات هذا الأخير، وقد يصعب الأمر على المرء في حالة ما إذا لم يستطع تحقيق نوع من التوازن بين هذه العناصر المتداخلة...

وفي الواقع يحارب الإنسان من أجل أشياء مبهمة غير مرئية، وغالبا ما يجد نفسه يلاحق السراب، وفي كل مرة يقترب من نقطة الانطلاق يكتشف أنها نقطة النهاية. وبين الوهم والحقيقة يكمن اللغز، الذي مع الأسف لم يستطع العديد منا فك خيوطه...

ولعل من أهم مسببات هذا الضياع، الذي يجتاح الإنسان بشكل مستمر، هو تأثره بالتفكير المادي، الذي خلّفته الرأسمالية في هذا القرن، وبذلك جعلت هذا الأخير يصبح عبدا لها طيلة حياته. يعبد الأنماط، التي تمت حياكتها وفقا لخطة مضبوطة ويرفض أن يعطي لنفسه المجال ليفكر خارج الصندوق أو وفقا لما تمليه عليه الفطرة...

والحقيقة أن النفس العزيزة بطبيعتها ترفض الخضوع وتعشق الحرية، لا تخضع لنوائب الحياة، بل على العكس من ذلك، كلما ازدادت صعوبة المواقف ازدادت قوة ومراسا. لكن المجتمع يأتي دائما ليفرض عليها اتباع نمط معين، فرغم جهادها المستمر لتظل حرة ومناضلة من أجل كسب قوتها وفقا لما تمليه عليها كرامتها، قد تضطر إلى العمل وفقا لنموذج محدد وقوالب خاصة، ربما تعادي تماما ما تربت عليه وما هي مقتنعة به...

سنوات من الكد والاجتهاد لتلتحق في الأخير بوظيفة ما، يرتادها صاحبها طوعا أو كرها كل يوم، مقابل مبلغ هزيل وثابت ورتبة عبد فارس على كتفه. دون الحديث عن المديرين، الذين يصادفهم، منهم مَنْ يقدس الشطط في استعمال السلطة، ومنهم مَنْ يأتي لتفريغ كل عقده المكنونة، ناهيك عن التحرش والتعامل بدونية مع الآخر. ومن دون تعميم لن ننكر وجود رؤساء أكفاء ويستحقون كل الاحترام والتقدير...

مَنْ كان يظن أن العبودية وزمن الرق قد انتهى منذ أواخر القرن التاسع عشر، فهو حتما مخطئ. هي نفس الحكاية مستمرة إلى اليوم لكنها أخذت أشكالا متحولة حسب خصوصية الزمن، الذي نوجد فيه... فقديما كان البشر يباعون ويشترون أما اليوم فهم يؤجرون، ولا فرق بين الخيارين الأول والثاني حقيقة...

في الختام، لا شك أن الإنسان قد يضطر إلى تقديم بعض التنازلات في بداية مشواره والقبول بوظيفة كلاسيكية من أجل اكتساب التجربة والخبرة وكسب رأسمال محترم لمشروعه الخاص، لكنه سيكون مجحفا في حق إنسانياته إذا ظل على نفس المنوال رهينة لوظيفة تقتل فيه الحياة... لأننا بخلاصة وجدنا لنبدع ونخلق ونتفنن ونعيش.