سعود القصيبي

تعودنا أن للأموال قيمة، فنحن نبيع بها، ونشتري، وبها تقيم أعمالنا وبها نقبض رواتبنا، وبها نسير معاشنا وأمور يومنا وحتى بها ندفع الضرائب من رسوم مختلفة. وبها أيضا وحتى بعد مماتنا توزع تركتنا وتقيّم بما يوازيها من المال. فالأموال هي عرف الحياة وسنة الله سبحانه وتعالى، ذكرها في آياته على أنها متاع، وحثنا على الصدقة منها. فالمال هو أسس الحياة، التي لا تمضي بسواها. لكن كيف عرفنا أن للمال قيمة حتى اتخذناه مبدأ للمعاملات؟

يقول المؤرخون إنه قبل أن يكون لدينا مال كان السائد المقايضة بين السلع. وكمثال أعطيك مثلا عنزة أو عددا منها وتعطيني جملا وهكذا. وبدأ بأنحاء العالم القديم تطور الأفران لتوليد حراريات عالية، واستعمل معرفته تلك فنقب عن المعادن وصهرها واحدا تلو الآخر وطور طرقه، فاستخرج النحاس ثم الحديد والذهب والفضة، وتمكن بالخلط والمزج بين المعادن من إخراج وحتى أكثر صلابة منها.

وكان النحاس في العالم القديم في بداياته كما تذكر الكتابات السومرية يُستخرج من عمان ثم يجد طريقه إلى حضارات بلاد الرافدين، ثم إلى منطقة الهلال الخصيب. وكان من أهميته أنه كان يستعمل في صناعة الأسلحة، ثم انتشرت أدواته من صقل وتشكيل باكتشاف مكامن له بمناطق مختلفة مما جعله متوافرا وبكميات كبيرة. وقد أتى ذكره في القرآن الكريم عن أصحاب الرسيم مما يعتقد أنه الآن بمنطقة الرس، وكانوا يستخرجون النحاس بحفر طولي في الأرض للوصول لعروق النحاس تسمى الرسيم. ولا ننسى في ذلك أيضا الحضارة الثانية على كوكب الأرض بمصر، حيث عثروا على مكامن للنحاس بكميات كبيرة أدت إلى نقلة كبيرة معرفية، وإلى إمكانية نحت وتشكيل الصخور وإلى بناء الأهرامات وحضارة كبرى لم يعرف مثيلاتها وتطور بشري كبير ومذهل ما زلنا نرى شواهده. إلا أن المعادن ظلت غير ذات قيمة تداولية وظلت تستعمل بالمقايضة وظلت مركزة لصناعة الأدوات المختلفة، وفي صناعة معدات الحروب. وكان الذهب والفضة يستخرجان للزينة فلا قيمة لهما إلا لمعبد أو لتزيين قبر أحد الملوك أو صنع حلي له، وهو في ذاك كما في استعمال الأصباغ المختلفة.

ويجهل المؤرخون أسباب تحول المعادن إلى سلعة متداولة تقيم من قبل السلطات القديمة بوزن محدد وحجم كأساس للتبادلات، إلا أنها بلا شك أدت إلى توسع التجارة والبناء وإلى ازدهار حضري كبير. ويذكر المؤرخون أن ذاك التحول أتى بعد انهيار الحضارات الأولى، الذي يتوقع أنه كان من أسباب شح مصادر المعادن، الذي حولها وأهلها لتصبح عملات متداولة تقيم بها مختلف التبادلات من بضائع أو خدمات.

وقد اعتمد الرومان النحاس والفضة والذهب في معاملاتهم، وهي الحضارات، التي أعقبت تلك ما كانت في بلاد الرافدين ومصر ثم الأناضول واليونان. ومن أسباب توسع الرومان أن اعتمدت جيشا نظاميا وإداريين وسياسيين تدفع لهم رواتب بالمعادن من عملات برونزية وفضية وذهب مكنت من توسع مناطق سيادتهم. تبعهم في ذلك فارس، التي قامت على أنقاض حضارات بلاد الرافدين متخذة الفضة كأساس للتبادلات، التي نسميها الدرهم أو الدراخما، كما يسمى باليونان بذات الاسم، وهو تعريف لمعدن الفضة باللغات القديمة.

وكان مَنْ يملك المعادن المختلفة ومناجمها هو مَنْ يملك أسباب ووسائل رقيه وغناه، ومَنْ يسطر وتتوسع مملكته. ولذا انتشرت الحروب بين الطامعين لهذه المعادن؛ لأن دونها لا يمكن أن تتطور أية حضارة وتتوسع داخليا باقتصادها أو حتى لصد الغازين. وابتدعت الأنظمة والحكومات المختلفة الرسوم والضرائب كوسيلة لتأمين تلك المعادن ليتمكن من الصرف الحكومي وللمشاريع ومن توسع للجيوش. وقد ذكر الله في القرآن الكريم أنه مكن النبي داوود -عليه السلام- من صهر الحديد بذكره بآياته تلين الحديد. كما كان أول صك عربي في دمشق إبان الخلافة الأموية باعتماد أوزان محددة وإذابة عملات أخرى بيزنطية وفارسية، ومن ثم إعادة صكها. ولكن كيف تحولت تلك العملات المعدنية إلى ورقية وللموضوع بقية؟

@SaudAlgosaibi