أحمد عبدالرحمن سنكي

في تمام الساعة العاشرة من مساء ليلة البارحة، وبعد أن أنهيت مهامي اليومية وجدت أن هناك ساعة أو أكثر بقليل تفصلني عن موعد الذهاب للسرير فقررت أن استغلها بمشاهدة فيلم على التلفاز أو إحدى منصات البث الرقمي. كنت أبحث عن فيلم يستحق تلك الساعة من وقتي. فيلم تاريخي أو فيلم مبني على قصة واقعية مثلا، فيلم حاز على جوائز أو رضا النقاد أو تصدر شباك التذاكر. مررت بعدة خيارات جيدة ولكني كنت حريصا أن يكون الخيار موفقا. الساعة الآن الحادية عشرة وما زال جهاز التحكم بيدي ولم أقرر بعد أي فيلم أشاهد، أغلقت جهاز التلفاز وخلدت للنوم !!

منذ نشأت الثورة أو النزعة التسويقية في الولايات المتحدة الأمريكية بدافع الحرية وبدأت الخيارات في حياتنا تتفاقم بشكل متسارع يستعصي على الإدراك. ولم تولد تلك الخيارات المتعددة إلا تلبية لرغبتنا الملحة والنامية نحو شعورنا بالاستقلال والحرية، وأننا وحدنا من يملك القرار، فسارعت الشركات بزيادة خياراتها المطروحة لنفس المنتج بشكل مخيف. تدخل اليوم إلى أحد متاجر البقالة لشراء الخبز أو رقائق الذرة المحمصة لتصدم بكم لا حصر له من الخيارات التي تكاد لا تنتهي، ومن هنا تتشكل حالة الشلل الإدراكي التي تعطل لدينا العملية الإدراكية، فيصعب على أغلبنا أن يحلل كل هذا الكم الهائل من الخيارات اللامنتهية في سبيل علبة من رقائق الذرة، ومن هنا تبدأ حالة القلق في دواخلنا بالتضخم تجاه قرار بسيط كهذا. وعلى ذلك قس اختيار البيت والسيارة والحذاء والفيلم وغيرها من أمور كثيرة قد يعطل تحليل خياراتها المتعددة حياتنا، وحتى لا تقلق كثيرا فإن هذه الحالة غالبا تصاحب الباحثين عن المثالية في كل شيء، ولكن المدهش المحزن في نفس الوقت أن كل ذلك الوقت والجهد المبذول لدى المثاليين لا يؤتي ثماره في الغالب لأنه حتى لو استقر على خيار محدد ولو بعد حين سيظل يقارن ويتحسر على عجلته في الاختيار، فلا هو استفاد بعد كل هذا التعب ولا هو ارتاح بعد الاختيار.

في دراسة مشهورة تم وضع رفين من المربى في أحد مراكز التسوق من شركتين مختلفتين، الرف الأول وضعت عليه الشركة ستة أصناف من المربى والرف الثاني وضعت عليه الشركة المنافسة أربعة وعشرين صنفا من المربى. فكانت النتيجة أن الشركة ذات الستة أصناف باعت أكثر من الشركة المنافسة على الرغم من تعدد خياراتها والتي توحي للمستهلك بامتلاك زمام القرار واتخاذه، وزد على ذلك أن نسبة الرضى لدى المشترين من شركة الستة أصناف كانت مرتفعة جدا مقابل عدم الرضى الكافي لدى الآخرين لأنهم أحسوا لوهلة أنهم تسرعوا في الاختيار وأن هناك نوعا آخر من المربى كان أفضل في قائمة الأربعة والعشرين صنفا.

قد يتهمني البعض بأنني أدعو في مقالي هذا إلى التسرع أو عدم إضاعة الوقت في البحث عن الأفضل، ولكنني بالعكس أدعو إلى البحث في حاجاتنا أولا وليس البحث في الخيارات المطروحة، الخيارات في حياتنا متعددة ولا تنتهي أما حاجتنا فتنتهي باختيار ما يسدها. وتذكر أن أغلب خياراتنا قابلة للتغيير والتعديل أيا كانت. قد أشفق على رغبتنا الدائمة في بحثنا الدؤوب عن الأفضل والأجمل والأجود والأرخص إلا أننا لو قارنا كل ذلك بحاجتنا لوجدنا أننا اخترنا ما يفوق تلك الحاجة بمراحل وأننا ضخمنا المنفعة غير الضرورية لنا. أما القناعة فهي سيدة الموقف ومواقف أخرى كثيرة في حياتنا، فاقنع بما لديك وتذكر أننا لا يجب أن نكون سادة القرارات دائما، وأن حياتنا لن تتعطل إن لم يكن خيارنا هو الأمثل. وأخيرا تأكد بأن ما يكفي الحاجة هو خيارنا الأفضل دائما.

@A_SINKY