غيداء العويد

أحب كلمة هيچ وتنطق (هيتش)، أحب مدلولها العميق وطريقة لفظها وشكل كتابتها، يقال إن أصلها فارسي وكانت أيضا تستخدم بكثافة في اللغة العثمانية العتيقة وهي ما زالت حتى يومنا هذا حية ترزق في اللغة التركية الحديثة، فيقول الأتراك في أحاديثهم مثلا (هيتچ بروبليم) أي لا مشكلة أو لا توجد مشكلة أبدا.

المعنى الدقيق للكلمة هو لا شيء أو أبدا أو لا شيء أبدا، إنها كلمة محبوبة وأثيرة لدى المتصوفة يطرزون بها لوحاتهم ومنسوجاتهم المختلفة، فهي ترادف الفناء وتوازي العدم في قاموسهم الخاص وكأنهم حصروها في معنى وحيد، فجعلوا منها تذكرة لكي لا تغفل وتلهى نفوسهم في هذه الفانية!.

طلبت مني إحداهن يوما في ملتقى ثقافي نسائي التعريف بنفسي فجاوبت في سريرتي: أنا هيچ ! نعم أنا هيچ وأنت هيچ وهن هيچ، نحن جميعا الشيء الذي هو لا شيء! نكابد جل حياتنا لنصل إلى المرحلة العليا من العدم واللاشيء كما يقول أحد شعراء المتصوفة!.

وهنا يحضرني اقتباس لا أعلم صاحبه:

(الإنسان أوله نطفة مذرة وآخره جيفة قذرة وهو بين هذا وذاك يحمل في جوفه العذرة، تنتنه عرقه وتقتله شرقه وتؤذيه بقه).

كنت في زيارتي الأخيرة عام ٢٠١٨ للجميلة إسطنبول التي تبدو لي في كل زيارة كعروس فاتنة لا تنزع طرحة زفافها الطويلة عن هامتها أتجول في شارع السلطان أحمد، فإذا بي أمام زجاج واجهة محل متفرد بالخط العربي وفنونه فأتسمر مشدوهة ومشدودة بالفتنة اللامتناهية لرسم وزخرفة الحروف والكلمات، وأخيرا أبتاع بزهو كبير بعد وقت غير قصير من التأمل والتردد قطعة رخام أطلب نقشها بكلمة هيتچ وأحبذ الخط الديواني على ما سواه ثم أعود أحملها معي إلى بيتي لأزين بها مكتبتي الصغيرة التي تنتظر هديتها كلما قفلت راجعة من سفر.

في ذلك اليوم البارد، كنت أمسك قطعة الرخام الملفوفة بقطيفة سوداء أنيقة بيميني وأتأمل البشر في الشوارع من حولي فيستحيل كل منهم إلى كلمة هيتچ باللون الأسود ولكن بيدين وقدمين!، لوهلة خاطفة ذابت كل الوجوه أمام ناظري وهيمنت الكلمة على الوجود، تمر من أمامي مجموعة شابة من خمس كلمات هيتچ تتضاحك ملء أشداقها وكأن أرواحها مختومة بختم دخول الفردوس الأعلى! وخلفي تجلس كلمة هيتچ نحيلة على طرف النافورة المضيئة تداعب وجه الماء بأصابعها الوردية وبجانبي هيتچ صغيرة تتشبث بيد أبيها بقوة كما لو أنه سيهرب بعيدا عنها، وهذا هيتچ معمر يبيع ذرة مشوية وينادي العابرين بأبيات شعرية لا أفهمها، وذاك هيتچ أشقر يعتمر قبعة بالية ويكنس الرصيف وهو يدندن دون أن يرفع بصره عن الأرض، كان لا يلقي بالا للمارة وكأنه يعوم في عوالم أخرى شديدة النأي، ومن بعيد يقبل نحوي هيتچ جنين يتكور في جسد أمه متأهبا للخروج الوشيك يبدو وكأنه سيخرج يده الآن ويمدها من إحدى فتحات البالطو الصوفي لوالدته ممزقا ظلام رحمها ومنفلتا من أسر سجنه، وفي ناصية الشارع هيتچ طويل يرتدي بزة عسكرية مرقطة يتكئ على سيارته العملاقة المسلحة.

أمشي وأمضي في طريقي حتى أقف قبالة سور جامع عثماني عتيق فأتسمر أمام قبر ملاصق له، أقرأ شاهدة القبر الناتئة من بين الزروع والورود وأتهجأ اسم سنان غير مرة ثم أتفحص تاريخ الرحيل المحفور على الحجر فتكون المفاجأة أنه قبل مائة عام فيدور الحديث التالي ببالي: هنا هيتچ يرقد في التراب منذ قرن من الزمان! وددت لو أخرجته من مرقده واستفسرت عن تلك المائة خريف التي قضاها هناك في الضفة الأخرى من الحياة؟ ترى بماذا سيخبرني؟، يشدني أخي من معصمي ويسحبني بكل طاقته فألقي بعجالة تحية الوداع وأهمس: مع السلامة سنان أفندي! أراك في العالم الآخر!.

تتراءى لي كلمة هيچ كلما تناهى إلي خبر موت ملك مهيب أو ملياردير شهير أو حتى عالم جليل خدم البشر والخير وطبقت شهرته الآفاق والآماد.

فعلام تتكبر وتطغى وتظلم يا ابن الطين والماء؟!.

Ghaida2010@hotmail.com