أكابر الأحمدي - جدة

فيها مادة تاريخية صادقة تصور حياة المجتمعات من كافة جوانبها

أكد عدد من المتخصصين أهمية تدوين ودراسة الأمثال الشعبية كمخزون تراثي مهم، وأنه يجب أن نعمل على النهوض بهذا الفن كموروث شفاهي ثقافي، وجزء من التراث الشعبي الذي يشكل ثروة كبيرة من الآداب والقيم والعادات والتقاليد والمعارف الشعبية والثقافية، وحذروا من أنها أخذت تتلاشى ويقل استعمالها في لغة الخطاب اليومية، رغم أنها تختزن في طياتها حكما وقصصا تعبر عن ثقافة أجيال كاملة.

تدوين التراث

وأكد الكاتب والباحث المتخصص في اللغة والأدب والنقد د. حمد بن ناصر الدخيل، أن الأمثال فن من فنون الأدب والثقافة، يرجع استعمالها إلى عصر متقدم من حياة الأمم والشعوب، وأنها تنقسم في ثقافتنا إلى نوعين: أمثال فصيحة، وأمثال عامية أو شعبية، وفات على المدونين كثير من الأمثال ومناسباتها وقصصها، إضافة إلى غياب كثير من قصص الأمثال المدونة ومناسباتها.

مصدر وثيق

وأضاف: ومما نأسف له أن الأمثال الشعبية أخذت تتلاشى ويقل استعمالها في لغة الخطاب، حتى إن جيل الشباب لا يعرف كثيرا من الكلمات والتعبيرات المحلية التي كانت سائدة منذ خمسين عاما، وكثير من الأمثال الشعبية أصلها فصيح، وتتفق مع أمثال الفصحى في المعنى، وهي مصدر وثيق من مصادر التاريخ غير المدون، ففي الأمثال مادة تاريخية صادقة غفل عنها المؤرخون أو تركوها، وتكمن أهميتها الكبرى في أنها تصور الحياة الاجتماعية والاقتصادية والنفسية في المجتمع أو الأمة، فهي تدلنا على العادات في ممارسة شؤون الحياة وأساليبها، يضاف إلى ذلك أن الأمثال الشعبية، كالأمثال الفصيحة، ميزان دقيق لتقييم الحياة الثقافية في المجتمع، ترشدنا إلى مستوى ما يتمتع به من ثقافة وعلم، أو ما يتردى فيه من أمية وجهل، ولكننا ما زلنا نرى قصورا في استثمار الأمثال في الدراسات التاريخية والاجتماعية والنفسية والثقافية والأدبية.

إعادة النظر

فيما يرى متخصص في النقد القديم الناقد والقاص د. صالح السهيمي، أن الأمثال الشعبية تعد شكلا من أشكال الفنون الشفاهية الممتدة في الثقافة العربية، وتمثل كنزا من الكنوز الأدبية التي كانت ولا تزال ذخيرة من ذخائر العرب المهمة، والمشكلة للبيئة العربية القديمة التي أنتجتها في زمن سابق، ونحن بحاجة إلى إعادة النظر وتنويع القراءات في التعامل مع المثل الشعبي، وحضوره اليومي في الثقافة المكتوبة والمسموعة والبصرية، لأنه في حال تغييب هذا الموروث بسبب أوهام اجتماعية أو تربوية سابقة، فقد تغيب الخصوصية في الثقافة المحلية.

تتبع الأمثال

ويكمل: نحن بحاجة إلى تتبع الأمثال وقصصها وحضورها في الأدب الشعبي والفصيح على حد سواء، كونها الامتداد الأصيل الذي لا يزال يحافظ على أصالته من خلال استعادة الأمثال وقصصها والحكايات التي تقف وراء الأمثال الدارجة، وحضورها أيضا في الفنون الأخرى من حيث التوظيف والاستلهام، وتداخل اليومي والواقعي والخيالي في هذه الفنون بمختلف أشكالها الفنية، من هنا تتجلى الأهمية، ويضاف إليها ما يتصل بمعرفة بناء التقاليد العربية في المثل الشعبي وقصته وحضوره في الشعر الشعبي، وتجليه في الفنون عموما، وقد يكون له امتداد في الأدب العربي القديم، وهذا يلخص فكرة التكامل في التعامل مع الجنس الأدبي الواحد، كالمثل الشعبي وأثره في الأجناس الأدبية الأخرى.

كنوز الأدب

وقال القاص والناقد ساعد الخميسي: يكتنز الأدب العربي عددا من الفنون والأشكال والأجناس الفنية المختلفة، منها ما هو أصيل مستمر، وما هو دخيل واندثر، ويرجع ذلك إلى حاجة الإنسان إلى الفنون بأشكالها وأنوعها، فمتى ما وجدت الحاجة الملحة تولد الفنون من أجلها، وهنا يأتي دور المبدع والكاتب كشخصية مؤثرة في المجتمع، ونلفت إلى مسألة ذكاء الكاتب وتأثره ومدى حساسيته بالقضايا وبالبيئة والناس من حوله.

الاقتباسات الحديثة

وتابع: وفن الأمثال، أو فن الحكمة، مع أنه ثمة اختلاف بين المثل والحكمة، فإنهما يتقاربان كثيرا إلى حد ما، كونها من الأجناس الأدبية القصيرة جدا، التي يتداولها الناس، فحينما ننظر إلى نشأة فن الأمثال، نجده صادرا عن قصة حدثت، وقيلت فيها مقولة أو عبارة تداولها الناس، فهناك ما يشبه الأمثال السائرة في عصرنا الحاضر، وهي المقتبسات أو المقولات التي يتداولها الناس عن شخصيات معينة، أو عن أحداث معينة قيلت فيها عبارة صغيرة يتداولها الناس اليوم عبر وسائل التواصل الاجتماعي مثلا، وهي أشبه بالأمثال، وربما كانت هذه الاقتباسات الموجودة حاليا سببا في عزوف الناس عن الأمثال القديمة، لانشغالهم بتناقل العبارات الأكثر تأثيرا وصلة بعصرهم.

صور ثقافية

فيما تحدث أستاذ النقد بجامعة الإمام محمد بن سعود د. عادل الغامدي قائلا: العبارة المثلية والحكمة السائرة ليست فقط قولا بليغا منمقا، بل هي صور ثقافية مليئة بالتفاصيل الحضارية، فهي تعكس تجربة حياتية فريدة، وتشير إلى اختيارات خاصة تمثل هوية حضارية، ولذلك اعتنت بها الدراسات الثقافية على اختلاف مشاربها، وكانت مدخلا مهما لمقاربة الخصائص الثقافية للشعوب والحضارات، وهذا ما وجدناه في آداب الأمم الأخرى، وقد نهضت مسارات بحثية وتراكمت أعمال علمية، ليصبح لهذه المدونات مجالاتها الأكاديمية الخاصة، ولتصبح حقلا علميا مختصا بتعقب نمو هذه الأشكال الثقافية وطرق تحورها، لكن الصورة مختلفة في آدابنا العربية، إذ إن الدرس النقدي والثقافي الجاد للأمثال والحكم يكاد يكون محصورا في المدونات القديمة، أي عصور التدوين المبكرة: العصر الجاهلي والعصور الإسلامية الأولى، ولا نجد احتفاء ذا بال بجمع هذه المدونات بعد كتابي الميداني «مجمع الأمثال»، والزمخشري «المستقصى في الأمثال»، والمحاولات المختلفة لم تجد تراكما علميا أو احتفاء نقديا.

قصور الدراسات

وتابع: والصورة تغدو أكثر قتامة إذا وصلنا إلى أمثالنا الشعبية في لهجاتنا المحلية، إذ إنها تنزوي وتخفت في أروقة الجامعات والمراكز المتخصصة، وتغدو هامشية غير جديرة بالدراسة في حقول علمية معتبرة، بل إن الأمر يغدو أكثر إرباكا إذا سمعت من يحذرنا من دراستها بدعوى أن هذه الدراسات ستؤثر على تلقي العربية الفصيحة، وأنها ستشوش على الأذن العربية، وهذا ما جعل هذه المدونات تضمر وتضعف في الأطروحات الجامعية، ونتج عن ذلك ضعف حضورها في المشاهد الثقافية والمنابر الإعلامية ومراكز البحث، والنتيجة من كل ذلك هي مدونات شفاهية كبيرة وغنية، تتمدد أفقيا في أفواه الناس وقصصهم وأسمارهم في مقابل منجز نقدي هزيل وفقير، لا يعدو كونه محاولات عفوية لا ترقى للعمل الأكاديمي الرصين المراقب علميا، فخسرت المكتبة العربية والمتلقي العربي بحوثا قيمة ودراسات عميقة بهذا الإهمال، وأزعم بأن كثيرا من النتائج المهمة والإجابات الثمينة كانت ستظهر لو قارب النقاد -بما يملكونه من عتاد منطقي وأدوات نقدية غنية- هذه المدونات بما فيها الأمثال الشعبية.