عباس ناصر

للعدسةِ إضافةٌ مختلفة للأشياء والمواقف، وأحياناً لها فهم آخرَ مُضاف. الصورةُ جمادٌ ناطق، وقد يكونُ لِسانها حاداً في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى تُضفي مشاعرها علينا وداً، وتسرقُ الدمعات جمالاً أم وجعاً.

لكن السؤال هو: أتستطيع الصورة أن تسد مكان الحقيقة؟ هل يمكنها أن تغير الحقيقة؟ هل يستطيع جمال الصورة أن يطغى على الحقيقة؟ ما سر القوة في الصورة؟ هل هو في نقلها الحقيقة ووصولها إلى الآخر المختلف ديناً أو لُغةً أو عرقاً فتُحدث فيه التغيير، أو تزرع لديه الشك أو اليقين؟ هي أسئلة يزدحمُ بها الفكر، ويسرحُ فيها الطرف.

كلماتنا صورٌ ذهنية تختلفُ لدى الأشخاص، وتتعدد أو تنحصر. في اختبار أُجري لأربعة طلبة من جامعة ميونيخ في سنوات دراسية مختلفة، طُلِبَ منهم فيه أن يكتبوا أول شيء يخطر في بالهم عند سماع كلمات معينة، والتي هي معيار لانعكاس صورهم الذهنية.. كانت الكلمات كالتالي: (فلسفة، المغول، جميل، منطق لا يمكن اختراقه، فوق الجبل). المدهش أن إجاباتهم كانت مختلفة جداً عند كلمة (فلسفة). فالأول أجاب «أثينا القديمة»، والثاني أجاب «سقراط»، والثالث «صديق اسمه فرانكي»، أما الرابع فقد كانت إجابته «نيتشه».

للأديب والكاتب القدير الأستاذ ناصر الظاهري من دولة الإمارات العربية المتحدة فيلم (التسامح)، الذي حصد من الجوائز العالمية العديد. يمكنُ وصف الفيلم بأنه رحلة صوفية، حيث يحكي عن الإنسان وامتداد حضارته بمختلف سماتها. زار الأديب ناصر الظاهري أكثر من خمسين مدينة حول العالم، وجالَ في المساجد والكنائس والمعابد، ووجدَ فيها كما يقول «ثمة رائحة واحدة، خيطا من النور يجمعها، خطوطا من التقاطعات والتسامح». استطاع الفيلم الذي مدته خمس عشرة دقيقة أن يعبّر بلغة مكثفة شاعرية، وأن يخلق لمفردة (التسامح) صورة قرّبت لمخيلة الجمهور معاني سامية قريبة من روح الإنسانية وعمقها القديم.

الفيلم عُرِض في مدينة نيويورك، وحصل على جائزة المهرجان، ثم مؤخراً جائزة أوائل الإمارات.

يمكنني الجزم بأن الفيلم استطاع أن يغير الصورة الذهنية للعديد من الأشياء لدى الكثير، وخير دليل على ذلك هو عرض الفيلم في مدن عالمية مختلفة اللغة والدين بلغة إنسانية بامتياز، فاستحوذت على المشاعر والاهتمام. نحن في حاجة ماسة لمثل هذه الأعمال الإبداعية، لما لها من قدرة على صياغة مفاهيم أكثر سهولة وأقل تعقيداً في النظر إلى الآخر. فاللغةُ المكتوبة قد تُوصل ما يرمي له الكاتب لكنَ السبق قد يكونُ للعدسة أحياناً. فما ينساه القلم تتذكره العدسة.