مشعل أبا الودع

منذ أن أعلنت التكنولوجيا ثورتها على الإنسان، ومنذ أن أعلنت القوى العظمى شمولياتها، وبدأت قوانين الأسواق تتغير، بعد أن كان الهاجس الوحيد ضخ السوق بأكبر عدد من كميات المنتجات ليتم استيعابها بشكل أوتوماتيكي، وبعد هذه المرحلة أصبحت الشركات الرأسمالية مضطرة لجعل منتجاتها المعروضة مختلفة عن البقية في السوق وبشكل يروق للزبائن، في وقت أصبح فيه العرض يفوق الطلب بشكل كبير.

منذ هذه المرحلة، بدأ الكل يتهافت نحو السوق، وغزت التكنولوجيا عالمنا الحالي، إلى أن قادتنا الأمور نحو تجربة اللاسلكي وشبكات الإنترنت وما قدمته من تسهيلات في حياة إنسان القرن الواحد والعشرين.

صحيح أن ما قدمته التكنولوجيا للإنسان لا يعد ولا يحصى، ولكن على هامش هذه التوطئة وما لا يمكن إنكاره هو أن التكنولوجيا قادتنا إلى حتفنا، وأرغمتنا على الدخول في متاهات التجارة الافتراضية، وأصبحنا عبيدا ودمى محركة من طرف أهوائنا في غياب الضمير الحي والفهم الصحيح لمقتضيات الأمور.

في حكاية أخرى، بعد أن بدأت التكنولوجيا تزحف نحو بيوتنا، وتمت دمقرطة الوسائل بين عامة الناس، انحصرنا في بضعة أمتار من العزلة والوحدة، واتخذنا من العوالم الافتراضية ملاذا لنا، واعتنقنا علاقات مزيفة تنبني على طمأنينة مؤقتة وزائلة بزوال القشرة السطحية. من كثرة الجنون الذي وصلنا إليه، قد تجد بعض الناس تختار أسماء أبنائها المستقبليين في الأسبوع الأول من العلاقة، وأخرى تتنابز بعبارات العشق والغرام في حوارها الأول في عالم موغل الضياع، لا قرار فيه ولا استقرار.

إن الحال الذي وصلنا إليه مؤسف بالفعل، دخلنا زنزانة العولمة وأغلقنا الأبواب... نستيقظ كل صباح، نفتح شاشة الهاتف وننقر عليها وعيوننا منزلقة قليلا، نبحث عن وجوه تركناها قبل النوم ليلة أمس، رغبة منا في استراق الجديد الذي قدمته ذلك الصباح، نحسن التمعن لنكتشف المتخفي وندقق بسبب نزوة البحث والاستكشاف، ندخل بعدها مباشرة في علبة مظلمة من المقارنات، وليدة التربية والمخالطات والتجارب التي عشناها سابقا. أشباح الأوهام ترتدينا منذ اللحظة التي نمسك فيها الهاتف أو الحاسوب، فندخل في متاهات المقارنات والتوقعات والانسياب وراء المغريات التي تجعل منا نرفض الحقيقة ونتشبث بالأوهام.

الحديث عن التكنولوجيا وأجزائها الخفية، يجعلنا نقر بما يمكن لأي شخص أن يعترف به بمجرد التمعن في مجريات أمور حياته وكيف تغيرت منذ أن وطأت رجله هذا العالم، وكيف أصبح من السهل الدخول في أزمات الاكتئاب والقلق والأرق.

لهذا على ركاب قافلة التكنولوجيا ألا يصدقوا الصور، وألا يتبعوا آثار غيرهم، فلكل حياته الحقيقية التي تنفصل كليا عما يتم نشره، ومنذ أن أعلنت الرأسمالية حربها ودخل مفهوم التسويق حيز التطبيق أصبح كل شيء يتم تقديمه في أبهى حلة وإدراجه تحت اسم هذا الأخير، كتسويق العادات، وتسويق الأجساد، وتسويق الأفكار والمعتقدات...

alharby0111@