د. فالح العجمي

نقل لي أحد الزملاء قصة مروية شفاهة نقلاً عن أحد مَنْ سمعوها من صاحب القصة نفسه، وكان فيها نموذج أحسبه متكرراً في كثير من مناطق شبه الجزيرة خلال تلك الفترة الزمنية، التي تسبق نشأة الدولة السعودية الثالثة؛ غير أن تاريخ القصة لم يحدد بسنة بعينها أو أحداث تدل على تاريخها بالضبط. وسأروي هنا نص القصة بضمير المتكلم كما رواها السارد (في محتواها، لكن بلغة الكتابة)، قبل أن أضيف تعليقي عليها في النهاية.

يقول: كنت أعيش مع أسرتي في مزرعة (في بريدة بمنطقة القصيم)، وكان والدي يحاول أن يدبر أمر معيشتنا من هذه المزرعة، التي لم يكن له دخل غيرها. وكنت منذ ريعان الصبا كغيري من الصبية أساعد والدي في زراعتها وسقياها وحصد المحصول، لكنها لم تكن تكفي لمعيشتنا، إذ لا أحد يشتري المحصول. وبالتالي لم نستطع توفير حاجياتنا الأخرى من غير الغذاء؛ وهو ما دعاني إلى الحديث مع والدي عن كيفية التصرف بطريقة أخرى، لكنه لم يكن يملك وسيلة أخرى بديلة. فعرضت عليه، أن أسافر إلى الكويت -فقد كنت أسمع أن أناساً سافروا إليها طلباً للرزق ووجدوا فيها أعمالاً حصلوا منها على المال- لبعض الوقت، لأجمع مالاً وأعود. لكن والدي رفض، لكون عمري آنذاك لم يكن يتجاوز الرابعة عشرة. فقال لي: أنت صغير، وربما تهلك في الطريق أو تتركك القوافل التي تسافر معها، إلى غير ذلك من الأسباب.

ألححت عليه عدة مرات، مما جعله يستسلم أخيراً ويوافق. وعندما سأل الوالد أصحاب القوافل عن إمكان مرافقة ابنه لهم، اعتذروا بأنه لا مكان له، إلا إن كان سيسير على الأقدام. حاول والده حينها ثني ابنه عن الفكرة، ومدى صعوبتها وخطورتها، لكنه أصر على إكمال ما عزم عليه. فاتفق مع أصحاب قافلة متجهة إلى الكويت على مصاحبته لهم، وسار معهم في الوقت الذي حددوه له. يقول: وصلت إلى الكويت، وبقيت أياماً عند بعض العائلات النجدية الموجودة هناك، ريثما أجد عملاً. لكني كنت أقف في نفس المكان الذي يقف فيه طالبو العمل، ويأتي أصحاب الأعمال، فيختارون غيري، ويتركونني، لصغر سني وضآلة جسمي. واستمرت الحال بهذه الطريقة قرابة أسبوعين، فضاقت بي الدنيا. وكنت في أحد المساجد، قد رآني الإمام مهموماً؛ فسألني عما بي من همّ، فقلت له: إن وضعي كيت وكيت! فهل تعرف لي أي عمل يمكن أن أقوم به؟

قال: أنت صغير، ولن تقدر على ما يقوم به الرجال، الذين يسعى أصحاب الأعمال أن يأخذوهم لأعمالهم، لكن ما الذي تستطيع عمله؟ قلت له: أنا أعرف كل شيء في الفلاحة، وكنت أقوم بكل الأعمال في مزرعة والدي. فردّ عليّ حينها: أوه، أجل ليس هذا مكانك، ليست هنا مزارع، ولا أعمال مما تجيدها. فعليك إذن أن تتجه إلى العراق! فقلت له: العراق؟! ويني ووين العراق؟! لكني بقيت أفكر في الأمر، وأسأل كيف يمكن الاتجاه إليه، وما الوسائل للوصول إلى هناك؟ وبعد عدة أيام، ويأسي من الحصول على عمل في الكويت، بدأت أفكر أنها ربما تكون المخرج الوحيد لي من هذه الورطة، وأخذت في التخطيط فعلياً لذلك. وفي الجزء التالي (في المقالة القادمة)، نكمل الباقي من القصة، وتعليقي عليها.

falehajmi@