د. فالح العجمي

تحدثنا في مقال سابق عن أن هناك من المحللين الاقتصاديين والعارفين بدوراته المتكررة، وكذلك بعض السياسيين وأصحاب الخبرة في التاريخ البشري، من شخّص سنة 2020م بأنها سنة سلبية بمجملها على الاقتصاد العالمي؛ إذ يحدث فيها ما يوازي أزمة 2008م، وقد يتجاوز الكساد والانكماش الاقتصادي فيها ما حدث خلال تلك الأزمة. لكن المفاجأة التي حدثت قبل بداية هذه السنة بأسابيع كانت من نوع مختلف؛ فقد كانت في مجال صحة البشر عامة، وحدث من تطوراتها ما لم يتوقعه أكثر المحللين تشاؤماً وأوسعهم خيالاً. فقد تجاوز أعداد المصابين في العالم المليون ومائة ألف نسمة، وتوفي منهم ما يزيد على ستين ألف مصاب حتى وقت كتابة هذا المقال، مما يجعل البشرية تقع ضحية جائحة ظن العلماء والناس عموماً أن العلم قد أنقذهم من الوقوع في مثلها، بعد أن كان آخر أوبئة البشر المماثلة يعود إلى أكثر من مائة عام.

ولو نظرنا إلى ما تم إلى الآن من سبل مكافحة هذا الوباء (أو الجائحة بتعريف منظمة الصحة العالمية)، فإننا سنجد -باعتراف جميع الهيئات والمنظمات الصحية والدول في العالم- أن الصين هي البلد المستفيد الأول من هذه الأزمة، رغم كونها المتضرر الأول منها في فترة انتشار المرض الأولى. فقد ظن كثير من المراقبين أن ازدهار الصين واقتصادها الذي ينمو باستمرار بطريقة تذهل العالم، وتفت في عضد منافسيها، قد أصبح من الماضي، وأنها ستدخل مرحلة كساد عظيمة؛ بل وربما لن تقوم لها قائمة بعدها، بسبب أن الواقعة الكبيرة كانت في قلب الصناعة الصينية مدينة ووهان بإقليم هوبي. لكن الصين استمرت في إبهار العالم، حيث اتبعت طريقة لم تكن معهودة في تاريخ البشرية من تعقب الناس المصابين، واستخدام وسائل العزل الإجباري بصورة فيها صرامة، بل وقسوة شديدة في التعامل مع المشتبه بهم. كما وظفت تقنياتها المتقدمة من وسائل التتبع الرقمي، والتطبيقات التي تشير إلى مواقع المشتبه بهم، وإمكان نقلهم العدوى إلى الأصحاء. كما وظفت كل ما لا يعرفه الناس عن التقنيات الصينية الجديدة في التطبيب، وإيصال الأدوية والغذاء إلى المصابين ومن يوجدون في حجر صحي، من روبوتات ووسائل تقنية عالية الدقة والكفاءة. وفي النهاية وصلت إلى نتيجة لم تستطع دول العالم الغربي (أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية وكندا) التي تصف نفسها بريادة التقدم العلمي الحديث أن تصل إليها في مكافحة هذا المرض؛ إذ وصلت نتيجة هذه الطريقة العلمية التكنولوجية فائقة الدقة والتطبيق إلى مرحلة صفرية لوجود الفيروس في الإقليم الذي كان بؤرة الانتشار. وهو الأمر الذي جعلهم يعيدون الحياة الطبيعية إلى تلك المنطقة المنكوبة، وجعل الصين رائدة أيضاً في التعامل مع ما يشبه الحرب الكونية في هذا العصر المتصف باختلاف أزماته.

وهذا في ظني مؤشر إلى أن النموذج الصيني قد فرض نفسه، بوصفه مركز القيادة في العالم، وأن دول العالم الغربي المتقدمة التي فشلت في تقديرات أثر هذه الجائحة، وبالتالي تلكأت في مقاومتها، وأيضاً لم تكن أنظمتها الصحية بالكفاءة التي كانت عليها أنظمة كل من الصين وكوريا الجنوبية؛ ستتحول إلى الصف الثاني في كل من السياسة والاقتصاد العالميين. وربما تكون هذه المرحلة أيضاً إيذاناً بسقوط الرأسمالية الغربية، وصعود النظام الصيني الهجين.

@falehajmi