غيداء العويد

يقول الشاعر اللبناني زاهي وهبي في إحدى قصائده العبقرية والعذبة في ذات الآن:

سوف أحب الشقوق في باطن قدميك

وحماقاتك المستجدة بعد الأربعين

ثم يمضي الفنان ينحت الكلمات التي تنهل معانيها من معين عواطفه الراقية إلى أن يختتمها بقوله:

أنوثتك ليست شكلا، ولا فستان سهرة

أنوثتك قلب يفيض

وضحكة تجري من تحتها الأنهار.

ما فتئت مفتونة بكل كلمة من قصيدة (غدا حين تكبرين) مذ سمعتها قبيل سنوات عديدة، وفي كل مرة تلامس فيها مسامعي يتجدد شعوري بفتنتها وكأنها المرة الأولى وكأن الزمان لا ينال منها ولا يسلبها جمالها في عيني!

تتجلى القصيدة بكل مدلولاتها وجمالياتها أمام ناظري ذات ليلة شتاء قارسة تناوحت الرياح فيها، كان البرد يعوي في خاصرة الكون فيما كنت أطوف بين مقاهٍ ومطاعم افتتحت حديثا أفتش عن مكان دافئ ألوذ به من البرد الذي أتقن عزف ألحانه بين ضلوعي، والرياح التي ما انفكت تراقص عباءتي باحتراف بالغ، فإذ بزوجين ضئيلي الحجم طاعني السن يظهران قبالتي، الزوج يمضي في طريقه ملتثما بغترة ناصعة البياض كندف الثلج والزوجة خلفه تسحل قدميها المشروختين بالسنين تعانق وشاحا صوفيا ناعما تجاهد لتضمه حولها، فيتوقف الزوج فجأة ويلتفت نحوها التفاتة حانية مترعة بكل اهتمام، يرنو إليها وتنسكب عاطفة دافقة من عينيه، كان يحفها ويلحفها بنظرة تسيل رحمة لا مثيل لها.

توقفت أتأمل وأتملى المشهد والحق أني لم أستطع إزاحة نظري عنهما، ما زلت أنصت ملء قلبي لكونشرتو النظرة الأفصح من كل الكلمات، وأستبصر نورا ناعما يسيل من سواد عينيه، وأتنسم طيب حدائق الورد التي نبتت من حدقتيه وأغتبط بالأغنيات التي انداحت من لحظة واحدة.

كنت أقلب طرفي بين حضن النظرة الدافئة وحضن الوشاح المنهمر كشلال أسود على كتفيها فأسمع في نفسي دوي الآية الكريمة (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن).

وفي ذات الوقت، تشاء الحكمة الإلهية أن يمر بمحاذاتي زوجان شابان لكني لا التفت للزوجة الحسناء وخطاها الرشيقة الواسعة، ولا أعبأ بالزوج المفتول العضلات وأناقة قبعة قوتشي التي كان يعتمرها بعناية لافتة، بل وأنبو ببصري عن معصمه المقيد بساعة صخرية كانت بحجم رأس آدمي ضخم! الحقيقة أني لا أعول على عاطفة الحب الحالمة المحمومة في شرخ الشباب، وهنا حضرتني عبارة بارعة لست أعلم صاحبها يقول فيها:

هل هناك أي شيء أجمل في هذه الحياة من شاب وفتاة يرتبطان ببعضهما بيدين متشابكتين وقلبين طاهرين في لحظة إتمام الزواج؟! هل يمكن أن يكون هناك شيء أروع من الحب في الشباب؟! والإجابة هي: نعم، هناك شيء أجمل! إنه مشهد رجل عجوز وامرأة عجوز ينهيان رحلتهما في الحياة معا، أيديهما بارزة العظام ولكنها لا تزال متشابكة، ووجهاهما مجعدان لكنهما لا يزالان مشرقين، وقلبهما ضعيفان ومنهكان بدنيا، ولكنهما لا يزالان قويين بالحب والإخلاص لأحدهما الآخر!

نعم هناك أروع من الحب في الشباب، إنه الحب في الهرم.

منهما يكاد يتحسس تاج النور خاصته أثناء حفل إتمام حفظ كتاب الله لابنتهما الصغرى، وعناق ضحكاتهما الهادر المجلجل وهما يلاعبان حفيدهما الصغير ويتراكضان خلفه.عناقات كثيرة وذكريات وفيرة وحكايات غزيرة تجل عن الحصر.

اللهم قلب لكل قلب يدنو ويحنو

اللهم روح لكل روح تعلو وتسمو.