فهد السلمان

من أسوأ عاداتي ألا أكتب ما هو مطلوبٌ مني إلا في اللحظات الأخيرة. ما لم أقع تحت ضغط الوقت، فإنني لا أعرف كيف أكتب حرفًا واحدًا، ليس هذا فحسب، وإنما حتى الفكرة -في مثل هذا الظرف- قد تبدو في ذهني مثل نقطة من الزئبق عصيّة على الإمساك، فما إن أتوهم أنني سيطرتُ عليها، وتمكنتُ منها، وأمسكتُ بتلابيبها، حتى تفرّ من بين أصابعي كمارد صغير يتأبّى على الإذعان، لأصرف النظر عنها إلى فكرة سواها، وهنا تتراكب الأفكار فوق بعضها، في أبشع صورة فوضوية، كقطيع من الخراف داهمه بوق سيارة مسرعة يقودها مراهق فبدد شملها، أحاول أن أمسك بالأقرب من متناول يدي، فأكتشف أنها تفتقد إلى تداعياتها، تمامًا كمن يمتح دلوًا من البئر ظنًّا منه أنه سينتهي به إلى الماء، قبل أن يفاجأ بالخواء، حيث يتدلّى الحبل في الهواء، إذ لا دلو ولا ماء.

لا أعرف تقييد الأفكار لحظة اصطيادها كما يفعل معظم الكتاب والمدونين، وحبسها على الورق، أو في حافظة الجوال، إلا حين الحاجة لطرحها، وتناولها، ليس (لا أعرف) على وجه الدقة، ولكن ربما لأني أصبحتُ أستمرئ لعبة التحدي، وتكالب الوقت، والمنغصات الجانبية التي غالبًا ما تكون خارج الحسبان، والتي قد تأخذك بعيدًا عن فكرتك، كمداهمة أحد أطفالك، أو اعتراض واجب منزلي لا يقبل التأخير أو التسويف، ليجرفك عمّا تفكر فيه، كسيلٍ مباغت يلفظ كل ما يعترض طريقه، حيث تبدو العودة إلى نفس (المود) ضربًا من الخيال، وتودّ حينها لو لم يكتب الله لك أن تفكّ الحرف، فضلًا عن أن تمتهن الكتابة، وتصبح هي حرفتك الأولى. هنا، وعبر هذه المشاق تتجلّى لذة الكتابة في نظري، تبدو تلك الـ(ثيمة) الخفية التي تربطك بنصوصك، تفصح عن ذاتها، خاصة عندما تتجاوز كل تلك التحديات، وتنجز نصك، والذي حتمًا لن يحوز رضاك، وتظل تعتقد أنه ولد خديجًا، وأنه ربما كان يمكن أن يكون كامل التخلق لو أتيحتْ لك ظروف أكثر هدوءًا، وأكثر ارتياحًا، بل وأكثر تسامحًا ممن سيقرؤك، وسيصنّفك وفق ما سيفهمه من قراءتك، وهذا هو الوهم بشحمه ولحمه وعظمه، لأن السكينة ما كانت يومًا من مستفزات، ولا محفزات الكتابة التي يلزم أن تقترب من القلق لتكون أكثر قدرة على طرح الأسئلة، وأقدر على رفع حمولتها إلى أبعد مدى، وبما يوسع أفق الطرح، ويعمّق جذوره.

قد يرى البعض أن هذا التصوّر لا يجوز إلا مع النص الأدبي الإبداعي، بحكم فضاءاته المتعددة، وحميمية روابطه، لكن في واقع الأمر، وفي تقديري أيضًا، أنه جزء من طقوس الكتابة أيّا كانت، طالما أنك تتعامل معها بذات الأبجدية، أما لماذا انجرفتُ للكتابة عن الكتابة؟، فلأن ثمة عامل كهرباء دعوته لإصلاح عطب كهربائي لا يمكن تأجيله، لكنه في الغرفة المجاورة يصرّ على مقاطعتي من حين لآخر بطلباته المتكررة، ويحاول أن يوهمني -ربما طمعًا في زيادة الأجر- بأنني كنتُ على مقربة من كارثة تشبه «تشيرنوبل» لو لم يأتِ به الله من الهند، وتسوقه الأقدار ليعالج مشكلة ذلك المصباح المحترق!!، في الوقت الذي كان لا بد لي فيه من تسليم مادتي قبل أن أتلقى (اتصال التفقد) من الزميل بندر الورثان!.

fmsr888@gmail.com