اليوم، الوكالات - واشنطن

الصراع على النفوذ في المنطقة بسبب الفراغ الناجم عن الانكفاء الأمريكي

يهدد تعهد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بإرسال قوات إلى ليبيا لمساعدة حكومة رئيس الوزراء فايز السراج، التوازن الدقيق للقوى في منطقة شرق البحر المتوسط، في الوقت الذي تتنازع فيه دول المنطقة على الثروات الغازية والبترولية الضخمة في المياه المحيطة بجزيرة قبرص المقسمة بين القبارصة اليونانيين وحكومتهم المعترف بها عالميا، والقبارصة الأتراك في شمال الجزيرة وحكومتهم التي لا تعترف بها سوى أنقرة.

» الحدود البحرية

اتفاقية ترسيم الحدود البحرية التي وقعتها تركيا في نوفمبر الماضي مع حكومة السراج المحاصرة في طرابلس، جعلت أنقرة تدعي أن لها حقوقا في أجزاء من مياه البحر المتوسط التي تقول اليونان «إنها تابعة لها وفقا للقانون الدولي».

وفي الأسبوع الماضي أكد أردوغان أنه سيبدأ منح تراخيص للتنقيب عن الغاز الطبيعي والنفط في المياه التي تدعي تركيا حقها فيها وفقا للاتفاقية الموقعة مع حكومة السراج، وهو ما يدفع بالتوترات في منطقة شرق البحر المتوسط إلى مستويات جديدة، ويهدد باتساع نطاق التصعيد في منطقة تتدخل فيها تاريخيا الولايات المتحدة وروسيا، ثم الصين مؤخرا.

يقول أردوغان: «إن تركيا تسعى إلى التحول لمركز عالمي للطاقة، ولا تسعى أبدا إلى التوتر الإقليمي»، لكن الغضب الإقليمي من ممارسات أنقرة يتصاعد بغض النظر عن هذه التصريحات.

وحذرت مصر التي تمتلك أكبر احتياطيات غاز مكتشفة في شرق البحر المتوسط من «تداعيات» أي إجراءات تنتهك الحقوق السيادية لقبرص على مواردها أو تهدد «الأمن والاستقرار» في المنطقة.

أما قبرص التي انقسمت في 1974 إلى شطر شمالي يسكنه القبارصة الأتراك ولا تعترف به سوى أنقرة، وشطر جنوبي يسكنه القبارصة اليونانيون في جمهورية تعترف بها دول العالم كله تقريبا، فقالت عبر وزارة خارجيتها الأحد الماضي: إن تركيا تحولت إلى دولة تمارس القرصنة في شرق المتوسط.

» غزو قبرص

وبالعودة للتاريخ، عندما غزت تركيا جزيرة قبرص عام 1974 وجدت نفسها بدون معدات عسكرية كافية، فلجأت إلى العقيد معمر القذافي رئيس ليبيا في ذلك الوقت، وانطلقت 4 طائرات ركاب تركية منزوعة المقاعد من طرابلس إلى أنقرة بعد تحميلها بالصواريخ والأسلحة أمريكية الصنع من المخازن الليبية، ورفض القذافي الحصول على ثمن هذه الأسلحة.

وفي مقابلة مع صحيفة «حرييت» التركية أعاد الدبلوماسي التركي المتقاعد تانير بايتوك التذكير بهذه الواقعة، وقال: لا يمكن أن أنسى مطلقا الصداقة التي أظهرها القذافي في هذا الوقت العصيب، وقد وصفتها بأنها دين لا يمكن رده.

وأشارت وكالة «بلومبرغ» للأنباء، إلى أن حديث الدبلوماسي التركي بايتوك كان حنينا إلى الماضي في 2011، وهو العام الذي أطيح فيه بالقذافي من حكم ليبيا لتدخل البلاد بعده عهدا من الفوضى المستمرة.

والآن تركيا في حالة صعود في حين ليبيا تغرق في مستنقع الانقسام والحرب الأهلية، ومع ذلك فهذه العلاقات يعاد إحياؤها الآن في منطقة مشتعلة ما زالت تعالج جراح أحداث حاسمة منذ نحو نصف قرن.

وتحظى قبرص بدعم مصر وفرنسا في مواجهتها مع تركيا، بحسب ما نقلته وكالة «بلومبرغ» للأنباء عن مسؤول حكومي قبرصي رفيع المستوى، طلب عدم الكشف عن هويته بسبب الحساسية الشديدة لملف العلاقات مع أنقرة.

وتعتزم فرنسا التي استعرضت عضلاتها العسكرية البحرية في شرق المتوسط بإرسال فرقاطة إلى المنطقة في الخريف الماضي، إرسال حاملة الطائرات «شارل ديغول» إليها خلال الأيام المقبلة في استعراض للقوة، بحسب المسؤول القبرصي، مضيفا: إن المملكة العربية السعودية أيضا استنكرت التدخل التركي في ليبيا، مشددة على أنه انتهاك واضح وصريح لقرارات مجلس الأمن.

» عدوانية تركيا

وفي اليونان يفرض ملف العلاقات مع تركيا نفسه على أحاديث الناس في الشوارع ومحطات الحافلات وعلى المقاهي، ويعتبر أغلب اليونانيين تحركات أردوغان الأخيرة مجرد حلقة جديدة في مسلسل السياسة التركية العدوانية.

ورغم أن اليونانيين لا يخشون نشوب حرب شاملة مع الأتراك، فإنهم يرون إمكانية حدوث مناوشات بين السفن الحربية للبلدين، مع قلق أكبر من تداعيات أي توتر عسكري على الاقتصاد اليوناني، الذي خرج بالكاد من برنامج الإنقاذ المالي الذي استمر 10 سنوات تقريبا وتضمن إجراءات تقشف مؤلمة.

أردوغان قال مؤخرا: إنه يجب أن يكون لليبيا وتركيا رأي في أي أنشطة للتنقيب عن الغاز في شرق البحر المتوسط أو مشروعات خطوط أنابيب الغاز فيها.

وبحسب المسؤول القبرصي فإن الصراع على النفوذ في منطقة شرق المتوسط حاليا، نتيجة حالة الفراغ الناجم عن انسحاب الولايات المتحدة من الشرق الأوسط وأفريقيا، حيث تحاول كل الأطراف الإقليمية ملء هذا الفراغ.

وتأتي تحركات تركيا الأخيرة في منطقة تربط بين أوروبا وأفريقيا والشرق الأوسط، في وقت يشهد تحولات في مواقف القوى العالمية، حيث تقلص واشنطن وجودها عبر البحار، في حين تعزز روسيا وجودها في المنطقة.

هذا التحول أتاح للرئيس التركي، نافذة لاستعادة النفوذ السابق في شرق المتوسط مع حليف قوي جديد وهو الرئيس الروسي، وقد استضاف أردوغان؛ فلاديمير بوتين في إسطنبول يوم 8 يناير الحالي للاحتفال بتدشين خط أنابيب غاز ترك ستريم «التيار التركي» الذي ينقل الغاز الروسي إلى أوروبا عبر تركيا.

» تحقيق مصالح

ويقول غريغوري لوكيانوف، خبير شؤون ليبيا في المجلس الروسي للشؤون الدولية الذي أنشأته الحكومة الروسية: إن أردوغان يريد دعم روسيا لاتفاق ترسيم الحدود مع ليبيا ولذلك يريد المساعدة من بوتين لإنقاذ حكومة طرابلس من الهزيمة... روسيا لن تخسر شيئا إذا حققت تركيا مصالحها.

في حين أن أي عقوبات ستتعرض لها تركيا بسبب تحركاتها في المنطقة ستدفع ببساطة أردوغان إلى المزيد من التقارب مع موسكو، فالأمر إذن مفيد لروسيا في كل الأحوال.

وقطع التحالف بين تركيا وروسيا خطوات واسعة بالفعل مع تمسك أردوغان بشراء منظومة الدفاع الصاروخي الروسية «إس 400»، رغم اعتراضات الولايات المتحدة ودول حلف شمال الأطلسي «ناتو» التي تعتبر تركيا أحد أعضائه ولكن «العاقين».

والآن ظهر بُعد جديد للصراعات الإقليمية التاريخية، وهو مشروع خط أنابيب غاز «إيست ميد» الذي يستهدف نقل الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا دون المرور بتركيا.

فقد وقعت اليونان وقبرص وإسرائيل مذكرة تفاهم لإقامة هذا الخط المدعوم من الولايات المتحدة، وهو ما يمثل ضربة قوية لأحلام أردوغان في جعل تركيا مركزا دوليا لتجارة الطاقة، وانتقد مركز أبحاث إستراتيجية وأبحاث الطاقة التركي المشروع وقال: إنه «غير مجد»، وإن حفل توقيع مذكرة تفاهم المشروع في أثينا كان محاولة فاشلة للرد على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وليبيا.

» مشروع أمريكي

في ديسمبر الماضي وافق الكونجرس الأمريكي على مشروع قانون لتعزيز تعاون أمريكا في مجال الطاقة والأمن في منطقة شرق المتوسط، بما في ذلك دعم مشروع خط أنابيب «إيست ميد».

وألزم القانون وزارة الخارجية الأمريكية بتقديم تقرير عن أهداف روسيا السياسية والأمنية وفي مجال الطاقة في المنطقة، وسمح للإدارة الأمريكية بتقديم المساعدة العسكرية لكل من قبرص واليونان.

ونقلت وكالة الأنباء القبرصية الرسمية عن مسؤول في وزارة الخارجية الأمريكية القول: إن واشنطن «قلقة للغاية» من التقارير التي تتحدث عن قيام تركيا بالتنقيب عن الغاز في المياه المواجهة لسواحل قبرص، وفي المقابل قال سيرجي لافروف وزير خارجية روسيا: إن الولايات المتحدة وحلف الناتو يعززان وجودهما العسكري في المنطقة «بطريقة معادية لروسيا بشكل صريح».

في المقابل فإن رهان اليونان وقبرص على الدعم الأمريكي غير مضمون بسبب المواقف اللينة للرئيس الأمريكي تجاه كل من أردوغان وبوتين، وقد أثار رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس موضوع التصرفات التركية «غير المقبولة» خلال لقائه مع دونالد ترامب في البيت الأبيض في وقت سابق من الشهر الحالي.