د. إبراهيم العثيمين

كان مقتل قاسم سليماني قائد فيلق القدس الإيراني، بغارة أمريكية في العراق يوم الجمعة الماضية «3 يناير 2020» ضربة قاسمة للنظام الإيراني، كما أنه مثل تصعيدا نوعيا وخطيرا في نزاع متقلب، ولم تكن له سابقة في العلاقات بين واشنطن وطهران. فهذا الإرهابي كان «الرجل الثاني» في إيران بعد المرشد علي خامنئي، فهو مهندس توسع النفوذ الإيراني إقليميا، ومصمم حملة الإرهاب والعنف والفوضى القائمة منذ عقود في المنطقة وعلى الولايات المتحدة وحلفائها. وبالتالي فالرد الإيراني على مقتل سليماني يبدو حتميا، بل وضروريا؛ ليحافظ النظام على صورته داخليا وبين حلفائه في المنطقة واتباعه والتي اهتزت بعد مقتل سليماني، إلا أن السؤال هو.. إلى أي مدى يصل هذا التصعيد بين الطرفين؟ وإن كنت أعتقد أن التنبؤ والتكهن بالسلوك الإيراني هو نوع من ضرب الرمل إلا أن محاولة الاستقراء تظهر ثلاثة سيناريوهات لمستقبل التوتر بين الطرفين.

إنّ الحديث عن الحرب الشاملة ضد الولايات المتحدة وتغني محور المقاومة بالرد الشامل ينتج عنه إخراج الولايات المتحدة من المنطقة، وكذلك الحديث عن خمسة وثلاثين هدفا أمريكيا سوف يتم استهدافها فيه مبالغة كبيرة، وهو خطاب شعبوي موجه للداخل أكثر منه واقعيا. إيران لن يكون من مصلحتها جر الولايات المتحدة إلى حرب شاملة ومفتوحة، وهي تعي الإمكانيات العسكرية الكبيرة التي تمتلكها الولايات المتحدة في المنطقة، وفي ظل الوضع الاقتصادي الصعب، الذي تواجهه إيران في ظل العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها من قبل واشنطن، فإن هذا الخيار هو بمثابة الانتحار الإستراتيجي. وبالتالي فالرد الإيراني باعتقادي سوف يكون محدودا ضمن أدوات إيران المعتادة موجهة ضد أهداف أمريكية ناعمة أو استهداف حلفائها بالمنطقة عبر وكلائها أو عملائها، كالهجوم الأخير الذي قام به الحرس الثوري على قاعدة عين الأسد في محافظة الأنبار غرب العراق، وقاعدة أربيل.

إلا أن خيار الحرب المفتوحة يظل واردا في ظل هيمنة التيار المتشدّد في إيران لا سيّما المؤسّسات العسكريّة، ممثلة في الحرس الثوري المصابين بجنون العظمة والرافضين الجلوس على طاولة المفاوضات مع واشنطن وتقديم تنازلات لنزع فتيل الأزمة وميلها إلى تصعيد المواجهة تحت رايات طائفية، قد تدفع باتجاه خطوات إيرانيّة تسهم في تصعيد التوتر وتجبر واشنطن لاتخاذ قرار الحسم باللجوء إلى الوسائل العسكرية.

بالمقابل لا تبدو واشنطن راغبة في الدخول في حرب مفتوحة مع إيران؛ خوفا من انعكاس هذه الخطوة على مستقبل الرئيس الذي يسعى للانتخاب لولاية ثانية، فأي خطوة غير محسوبة ربما تنعكس سلبا على مساعي الرئيس في هذا الاتجاه. وبالتالي سوف يستمر ترامب بالضغط اقتصاديا مع ربما ضربات موجعة هنا وهناك مستهدفا أذرع إيران بالمنطقة.

أما السيناريو الثاني فهو أن هذا الضغط الأمريكي والأوروبي والمتزامن مع الضغط الشعبي الداخلي المتأزم من العقوبات الاقتصادية، سوف يجبر إيران في نهاية المطاف على انتهاج سياسة التهدئة وعدم التصعيد والعودة للتفاهم على طاولة المفاوضات. وإن المغامرة والمقامرة على نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة، مغامرة خطرة قد لا يتحملها الاقتصاد الإيراني، ولن يتحملها الشعب الإيراني. مع مؤشرات إلى عودة العقوبات الأوروبية كذلك. ورأينا مظاهر هذا السخط خلال الأشهر الماضية. أما السيناريو الأخير وأعتقد أنه السيناريو المرشح للتحقق عمليا في ضوء معطيات البيئة الإقليميّة الراهنة، وهو الاستمرار في المراوحة بين التصعيد والنزاع تارة والتهدئة تارة أخرى والتي اتسمت بها العلاقات بين البلدين على مدى العقود الماضية.

وأخيرا ما زلت أعتقد أن كلا الطرفين ليس لديهما الاستعداد في فتح حرب مفتوحة، فكلا الطرفين لديهما حساباتهما ووعيهما بالنتائج المترتبة عن هذه الخطوة. وإيران تعي جيدا الدرس العراقي وتعلم أن هذه الخطوة مكلفة جدا. إلا أن هذا التصعيد في ظل حالة الغليان التي تجتاح المنطقة تنبئ بأن الأيام القادمة ستكون حبلى بالمفاجآت، وعلينا أن نكون مستعدّين لهذا المستقبل، وأن نتهيأ له بكل ما نمتلك من إمكانيات.