د. فالح العجمي

هل يظن بعضنا أو كثير منا أن الثقافة السائدة في مجالات الحياة المختلفة ستبقى هي نفسها المطبقة والمطلوبة، والممثلة لفرص العمل والاستثمار والمستقبل بصورة عامة؟ مَنْ يظن ذلك، فإنه بالطبع ينتمي إلى ثقافة القرن العشرين، وما قبله، أو حقبة الثورة الصناعية، التي انتهت منذ ثلاثين سنة تقريباً، وحلت بديلاً عنها ثورة المعلومات الرقمية، التي غيَّرت مفاهيم البشر من ناحية، وأسهمت في تغير كلي في سرعة تآكل مراحل تطور البشر فكرياً، قبل أن يكون تغيراً مادياً وتقنياً. كان ذلك قد حدث من خلال التقدم العلمي الكبير فيما أصبح يطلق عليه «حقبة الدماغ» في تسعينيات القرن الماضي، والنقلة التي صاحبته في الذكاء الصناعي، الذي مثّل عصب هذه الثورة البشرية الرابعة.

فخلال هذه العقود الثلاثة تبلورت رؤية مستقبل البشرية خلال هذا القرن على أقل تقدير، حيث تغيرت الأسس التي قامت عليها العلوم والتقنيات وفلسفات الحياة والعمل، مما رسخته أطوار التطور البشري في الحقب التاريخية الماضية: أولاً، في اكتشاف كوبرنيك أن الأرض ليست محور العالم كما كان يعتقد القدماء جميعاً، وإقامة الدليل الذي ما انفك علم الفلك الحديث يثبته ويدققه على أنها ليست إلا كوكباً ضئيلاً من بين مكونات النظام الشمسي؛ ثانياً، اختراع المطبعة التي غيّرت تعامل البشر مع العلم، وسرعة انتقال العلوم إلى مناطق الأرض المختلفة بدلاً من النسخ اليدوي والقراءة من أعداد محدودة من الكتب؛ ثالثاً، الثورة الصناعية الكبرى، التي أعقبت الاكتشافات العلمية المهمة وابتكار الطباعة، التي حققت تقدماً هائلاً في استغلال موارد الطبيعة وتحويلها إلى منتجات تخدم الإنسان في شتى أغراضه وحققت في الوقت نفسه قدرات كبيرة في وسائل المواصلات والعلوم التقنية بمختلف أنواعها مما أفضى بالطبع إلى مرحلة الثورة الأخيرة حالياً؛ رابعاً، ما نتحدث عنه هنا من انتقال إلى الثورة الرقمية، التي غيَّرت كل شيء حول الإنسان وداخل الإنسان أيضاً، حيث أسهمت في تطور مذهل للبيوتكنولوجيا والهندسة الوراثية، وما يستتبع ذلك من قدرة على التحكم في الحياة وتغيير المعطيات الطبيعية، التي كان يُظن أنها قارّة ثابتة، بالنسبة إلى كل الأحياء من نبات وحيوان وحتى إنسان. فإذا أضفنا إلى هذه الثورات المعرفية الكبرى الانقلاب الحقيقي في سبل العيش، الذي تحقق بفضل تقدم هذه الصناعة الجديدة والعلوم التطبيقية المرتبطة بها عموماً في مجالات الرخاء المادي وسرعة المواصلات ووفرة المعلومات، وغير ذلك من المظاهر التي لا يمكن حصرها، وما نتج عن كل هذه التغييرات من تحول في البنى المجتمعية وفي نظام القيم والممارسات اليومية؛ فإننا نشير إلى هذه الثقافة البشرية الجديدة، التي تختلف عما سبقها في الحقب الماضية.

ونقول هنا إن فرص المستقبل أصبحت مهيأة فقط لمَنْ يدرك هذا التغير، ويعمل على تطوير نفسه وفقاً له. ففي الوقت الذي تغيرت فيه كثير من النظريات العلمية الحديثة إلى بدائل جديدة تختلف جذرياً عن أسس النظريات في الحقب السابقة؛ فإن مجالات عديدة مثل علوم البيئة، وما يرتبط بها من تقنيات، ستكون هي المجال الجديد للابتكارات المستقبلية، وكذلك لفرص العمل المصاحبة لتلك الابتكارات، مثلما تحولت مجالات من الطب البديل إلى منافس للطب التقليدي، الذي يقوم على تقنيات الجراحة والتشريح المتوارثة منذ قرون. فليت شبابنا يلتقطون الفرصة ليحققوا تقدماً في هذا المجال.

@falehajmi