عبدالله الغنام

لعلكم تلاحظون مثلي مؤخرا كثرة الذين يصورون بجوالاتهم الطعام الذي يقدم لهم في المطاعم والمقاهي. ولو تأملنا هذه الظاهرة الجديدة لوجدنا أن من أسبابها الزخم الهائل للصور اليومية التي تضخها مواقع التواصل الاجتماعي، والتي تجعل الناس يتبعون الموجة أيا كان نمطها. وأزعم أن السبب الآخر هو زخرفة الأطعمة، والديكورات المؤثرة واللافتة للأنظار، والتي أصبحت أهم من جودة الطعام نفسه، حيث يطغى الشكل على المضمون!

وهذه العادة الحديثة (تصوير الطعام) هي موضة جديدة كأي (تقعلية) يقع فيها الشباب ثم يلحق بركبهم الكبار تشبها بهم ظنا أن الشباب سيعود يوما!. وصحيح أن التصوير فن وموهبة، ولكن حين يصبح الأكثرية مصورين تكون المسألة مجرد تكرار وتقليد، وتفقد الكثير من قيمتها. وهي أقرب إلى اللهو واللعب من كونها مهارات للفن والذوق. فالإكثار من الشيء يفقده لذته وميزته. والمستفيد الأكبر من هذه الظاهرة المنتشرة هم أصحاب المطاعم والمقاهي لأنها دعاية ببلاش!. وهذا أيضا يفسر كثرة انتشار المطاعم والمقاهي بشكل مروع وكثيف، ويدل بوضوح على التغيير في النمط الغذائي والاجتماعي.

والشيء الملاحظ والمستغرب أن البعض لا يستطيع أن يأكل من الطبق المقدم فورا! إذا لا بد من الانتظار حتى يأخذ صاحب الجوال (المصور) الصورة مناسبة. وقد يطول الانتظار من أجل التقاط الصورة من الزاوية الصحيحة؟! وهذا يتناقض مع المثل الشعبي القائل: مقابل الجيش ولا مقابل العيش (الأرز)!. وهذا المثل يذكرني بحديث المقداد بن الأسود -رضي الله عنه- حين شرب الحليب الذي كان من نصيب (محجوز) الرسول عليه الصلاة والسلام بسبب الجوع!

والشيء بشي يذكر فقد قرأت أن أعرابيا كان يأكل لحما من المائدة، فقال له أحدهم: أبصر الشعرة التي في لقمتك، فقال له الأعرابي: وأنت لتراعيني بنظرك حتى ترى الشعرة في لقمتي! والله لا أكلت معك أبدا!. وردة فعل الأعرابي تدل على الذائقة السليمة، فليس من المنطق أن نتتبع الناس فيما يأكلون، ومتى يأكلون، وكيف يأكلون؟. وهل فعلا يحتاج المتابع مثل هذه التفاصيل الدقيقة عن حياتنا؟ لا أظن ذلك، ولكنه التقليد والفراغ!. في السابق كان المقربون منا هم الذين يعرفون ماذا نأكل ونحب؟، وماذا نفضل من الألوان؟، وأي الأطعمة نتلذذ بها. واليوم أصبح البعيد (المتابعون) يعرفون تفاصيل كثيرة ربما لا يعرفها القريب حتى الوالدان والأزواج!

وهناك قضية أخرى مهمة في مراعاة ظروف الآخرين، وهي أنه ليس كل إنسان يتابعك لديه الوفرة في المال والطعام. وهو أيضا لا يملك القدرة للذهاب إلى المطاعم الغالية والفاخرة. والبعض بالكاد راتبه يغطي الضروريات المهمة من الحياة، ثم نحن نتباهى من غير حاجة بتصوير أنواع الأكل والشراب، والتنقل والقفز بين المطاعم. ويزداد الطين بلة أن المقارنات قد تشتعل بين الأطفال والمراهقين، وسيتساءلون لماذا هؤلاء يقدرون ونحن لا نستطيع؟!، وسيشكل هذا عبئا ثقيلا على الأسر محدودة الدخل.

إنه الممكن أن يتفهم الإنسان تصوير أكلة غريبة وعجيبة قد يراها مرة واحدة في حياته!، ولكن المذموم أن يصبح الأمر إدمانا بلا فائدة وإضاعة للوقت وهدرا للمال. وأن يصبح شكلا من أشكال الترف الذي قد يؤدي إلى الحسد والنقمة.

والحقيقة أنني مندهش ولست أفهم الفائدة المرجوة من مشاركة حياتنا الخاصة مع الغرباء (المتابعين) الذين لا نعرفهم ولا يعرفونا حق المعرفة. وهذه الثقة المفرطة في تلك المواقع الافتراضية ليست منطقية. ويدل على ذلك ما روي أن أحدهم ادعى أنه يثق بفلان ويشهد له. فقال له عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: هل سافرت معه؟ هل تعاملت معه بالدينار والدرهم؟. فعلى النقيض من (المعيار العمري في الثقة في الناس) نحن نعرف المتابعين فقط من وراء ستار مواقع التواصل الاجتماعي، ثم بإرادتنا نعرض عليهم خطوة بعد خطوة أدق المعلومات الشخصية عن حياتنا، وفيهم الصالح والطالح، والمتعلم والجاهل، والعاقل والمتهور، والطيب والمتربص.

abdullaghannam@