د. فالح العجمي

ربما يظن بعضنا أن ظاهرة أسلمة الفكر، وادعاء أصل الأشياء كلها في الإسلام، من بنات أفكار شيوخ الصحوة، الذين كانوا يكذبون ليل نهار، ثم يختمون كذبهم بادعاء أن العلم الحديث يدعم دعاواهم، وأن الحضارة الغربية ليست سوى من نتائج تطبيق الفكر الذي يدعون إليه.عندما أحسوا بقرب السماح للمرأة السعودية بقيادة السيارة، وإعطائها بعض الحقوق التي منعتها منها سيطرة الصحوة في فترات سابقة؛ بأن الطب الحديث أثبت أن قيادة المرأة للسيارة تؤثر عليها. والمعروف أن هذه الدراسات، التي يعتمدون عليها والطب الحديث الذي يشنشنون به عندما يفلسون في حججهم، هي دراسات وطب خاص بهم، لا يعرفها إلا شيوخهم. وهم -مع بالغ الأسف- لا يراجعون أنفسهم، ولا يدققون في مقولاتهم الجوفاء، إذ ما الفرق مثلا بين أن تجلس المرأة الفترة نفسها، التي تكون فيها مستخدمة السيارة، على المقعد الأيمن أو على المقعد الأيسر (خلف المقود)، أو أي تأثيرات صحية أخرى. وكذلك أتباعهم الذين لا يفكرون، ولا يراجعون مقولاتهم عندما تكون غير منطقية، ولا معتمدة على مبدأ ديني ولا عقلي، مما شجعهم على الإتيان بأفكار خنفشارية تؤدي إلى كوارث في طريقة تفكير الأتباع، وتخوف من استخدام العقل، ومن تقبّل الحضارة الحديثة.

لكننا لو نظرنا إلى تراثنا الفكري القديم، سنجد أن هناك من المؤلفين العرب والمسلمين القدامى مَنْ ينحو المنحى نفسه، حتى من خارج دائرة الفقهاء والوعاظ. إذ نجد حتى من أصحاب التوجهات الفلسفية مَنْ يرى، أو يستبطن دون أن يعي ما يقوله، ضرورة أسلمة الفكر العالمي، دون تدبر لما يلقي الكلام فيه على عواهنه. ونأتي بمثال من كتاب ابن مسكويه (أحد فلاسفة الأخلاق المسلمين في القرن الحادي عشر الميلادي)، بعنوان: «تهذيب الأخلاق»، حيث ينقل فيه عن بعض نصوص أرسطو المترجمة إلى العربية: «وأرسطوطاليس يقول: إن الدينار ناموس عادل، ومعنى الناموس في لغته السياسة والتدبير وما أشبه ذلك. فهو يقول في كتابه المعروف بنيقوماخيا: إن الناموس الأكبر هو من عند الله تبارك وتعالى، والحاكم ناموس ثانٍ من قبله، والدينار ناموس ثالث. فناموس الله تعالى قدوة النواميس كلها، يعنى الشريعة والحاكم الثاني مقتدٍ به والدينار مقتدٍ ثالث».

ولنا أن نتصور، كيف تحوّل ذلك الفيلسوف اليوناني الوثني السابق زمنياً لنشأة المسيحية والإسلام إلى مؤمن يتحرز بجعل الناموس الأكبر من عند الله؟ وبالطبع لا يفكر أو لا يعرف ابن مسكويه، أو المؤلف الذي ترجم أقوال أرسطو، ونقل عنه ابن مسكويه ذلك النص المحرّف، أن أرسطو أحد أشهر من يعيد كل عوامل الطبيعة والمؤثرات فيها إلى البيئة من حول البشر. والأدهى من ذلك هو إقحام الشريعة في تبريرات فيلسوف الطبيعة المشهور، وكأنها من مسلمات فكره. وليس أسوأ في العلم من الكذب في النقل عن المصادر، لكن هل يعي ابن مسكويه والشيخ صاحب المبايض، وغيرهما ممن يحاولون أسلمة العلوم والفكر أنهم يكذبون على جمهورهم، أم إنهم ضحايا للتيارات الفكرية التي سادت في عصورهم وجرفتهم إلى هذا الطريق؟.