سالم اليامي

من يتفحص صورة مقطعية من الحالة التي وصلت إليها الأوضاع في العراق الشقيق، يصاب بصدمة لا يستهان بها. ومن يود أن يُقَارب الأوضاع المتأخرة هناك فعليه أن ينطلق من حقيقتين، الأولى: أن هذا البلد يعيش حالة احتلال غير مباشرة من قوة عظمى تسمى الولايات المتحدة الأمريكية، تقدمت في مرحلة ما من عمر العراق المعاصر وشكلت فيه إلى حد بعيد مزاجا عاما جديدا مغايرا لنظام صدام حسبن، أنتج هذا النظام طبقة سياسية جديدة ونظاما سياسيا بمعطيات محددة. أما الحقيقة الثانية فهي حالة من الهيمنة والاحتلال المباشر مارسته الثورة الإيرانية، وشكلت مزاجا جديدا للحكم ولرموزه، وبلورت المحددات العامة لحركة السياسة، والاقتصاد، والمجتمع، والدولة وأجهزتها الرئيسة سياسية، واقتصادية، واجتماعية.

وتولد من جراء ما سبق نظام سياسي فاسد، تجلت فيه صور الهيمنة الخارجية وتقلصت حظوظ الدولة المدنية، الوطنية. وبرزت طبقة سياسية انتهازية تنظر للعراق كدولة يجوز نهبها، وسرقة ما يتوفر من مصادرها ومواردها، وحال هذه الطبقة الجديدة يقول: إذا لم أسرق أنا، فسيسرق غيري، على غرار المقولة المشهورة، لك، أو لأخيك، أو للذئب. وكان السياسيون تحولوا بتفاهم خارجي، ومباركة إيرانية إلى مافيا وعصابات عابرة لجسد الدولة. حضرت فيه واستقوت به كل أدوات الأخذ، والاستحواذ، هذا الوضع خلق لدى الشباب، ولدى الناس إجمالا حالة من انسداد الأفق، وفقدان الأمل في أن تستطيع الطبقة السياسية إصلاح نفسها، فأصبح الشارع يخرج طلبا للتغيير من الجذور، للدولة، ولنظام الانتخاب، ومطالبا بإقصاء كل المرتزقة، والمتميزين باسم السياسة والمنصب، والتبعية لهذا التنظيم أو ذاك.

منذ 2003 أفرزت التفاعلات الدولية، والإقليمية، عراقا مشوها غيبت فيه محاولات إنجاز دولة، لصالح إنتاج جسم سياسي مرهق بالطائفية السياسية، والمناطقية، وغابت كل مظاهر الدولة الوطنية في أبسط صورها. ولعل من المظاهر الصحية الباقية لدى العراقيين إدراك الكثيرين منهم أن القرار السيادي العراقي مغيب اليوم بطريقة يلاحظها الناس داخل العراق، وخارجه.

مظاهرات العراق تنامت بشكل درامي حاد، حيث بدأت مطالبة السياسيين بتقليص مظاهر الفساد، والرأفة بالعراق، والعراقيين الذين حرموا من الوظائف، وأبسط الخدمات الأساسية في بلدهم. ولما جاءت الردود الأولى من السياسيين مرتبكة ودون مستوى مطالب الناس؛ نتيجة عجز وعدم قدرة معا، زادت مطالب الناس المحرومين من كل شيء إلى أن بلغت المطالبة برحيل النظام، وتغييره، واستبدال الوجوه والرموز السياسية التقليدية بغيرها من المختصين، مع المطالبة بتصغير حجم الفساد بتقليص عدد المسؤولين في الدولة خاصة فيما يسميه المحتجون بالمرحلة الانتقالية، أو التصحيحية.

الجزئية الأبرز فيما يتعاطاه الناس في مواجهة سلطة فاسدة، رفض التدخل الخارجي، وينصرف جزء كبير من هذا المعنى لرفض إملاءات الاحتلالين المباشر، وغير المباشر. ولعلها من المرات النادرة التي أصبحت مألوفة في المرحلة المتأخرة، الإعلان صراحة، وعبر الهتافات برفض التدخل الإيراني السافر. الذي يعرف الناس في العراق أنه متغلغل في ثنايا نسيج المجتمع السياسي، والأمني العراقي. ويعرفون أيضا أن إخراجه والتعامل معه كقوة احتلال بات من أولويات عودة الحياة الطبيعية إلى سابق عهدها. الملاحظ أن الأصوات التي تدرك حجم التغلغل الإيراني في العراق، بدأت تفكر بصوت مسموع، وتضع تصورات للتخلص من هذه الهجمة، التي كأنها تنتقم من العراق وأهله، وتريد تدمير شكل الدولة والمجتمع فيه، وذلك من خلال دعوتها المتكررة، والواضحة بان يكون هناك فهما وتعاونا عربيا وإقليميا ودوليا إذا اقتضى الأمر. بعض صور الإصلاح في المجتمعات النامية والتي فقدت شيئا من سيطرتها على قراراتها النهائية تأتي حادة، وربما بنغمة تريد إزالة كل ترسبات المراحل السابقة سياسية، واقتصادية، وأمنية، لتبعد عن الدولة شبح دولة الغنيمة التي يؤسس لها الاحتلال وأعوانه.