اليوم - الأحساء

يحكي قصة رحلة في الاتجاه المعاكس للزمن

تمامًا مثل بطل رواية مارسيل بروست «البحث عن الزمن المفقود»، المتعطش لاستعادة زمنه الضائع، يحكي لنا المخرج السعودي بدر الحمود في فيلمه «فضيلة أن تكون لا أحد»، قصته عن الزمن والحنين، الفقد والاستعادة، الأنا والآخر. هنا في هذا الفيلم نجد أنفسنا أمام سفر إلى زمن مستعاد، رحلة في الاتجاه المعاكس، ربما إلى داخل الحمود نفسه، الذي يهدي الفيلم لوالده، إلى تخوم ذاكرته حيث عالم الطفولة، وعالم الحكي الذي لا يقدره المرء حق قدره إلا بعد فوات أوانه.

» الماضي الشعوري

يحمل «فضيلة ألا تكون أحد» رغبة مخرجه في أن يحدق مباشرة في الماضي الشعوري لكل منا، يعود الإنسان إلى ماضيه كأنما يسعى إلى استرداد نفسه باحثا عن شيء مفقود بين ركام الصور والذكريات، عن حقيقة أو معنى يلملم من خلاله فكره وشظايا ذاته، عودة «الحمود» أيضًا إلى الماضي مصحوبة بوعي حاد بالسياق الأعم والأكثر اتساعا لحكايته، لكن هذا الجانب لا يفصح عنه بصورة مباشرة، بل يكتفي فقط بإشارات لا تخطئها عين المشاهد.

» آلام الفقد

جاء المشهد الافتتاحي للفيلم بالغ الدلالة: رجل ينظر في مرآة سيارته فيرى انعكاس وجهه عليها، يقلب صورة معلقة جوار المرآة على وجهها حتى لا يرى وجه الطفل الذي تحمله، ينطلق بسيارته فيشاهد أحدهم يقف على قارعة الطريق، وبعد أن يبتعد عنه قليلا، يعود بسيارته للوراء ليعرض عليه الركوب إلى المكان الذي يبتغيه، لكن هذه العودة إلى الوراء بسيارته سيتبعها عودة بالوراء زمنيا عبر فعل الحكي.

يستحضر الفيلم مجموعة من الآلام العميقة، آلام الفقد والغياب، آلام النسيان والضياع، فأبو محمد «يقوم بالدور مشعل المطيري» فقد ابنه الوحيد في الحرم المكي أثناء أداء مناسك العمرة، ومن وقتها توالت سلسلة الفقد في حياته، زوجته، حياته وطموحه وشغفه بالعالم، وأيضا ذاكرة والده التي أصابها الزهايمر، أما أبو ناجي الذي استقل سيارته «يقوم بالدور إبراهيم الحساوي» فقد حكى قصة ابنه الذي مات منذ سنوات عديدة وآثاره التي ما زال يحتفظ بها.

سنلحظ بعد أن ننتهي من مشاهدة الفيلم أن «أبو ناجي» كان حريصا على سؤال «أبو محمد» في كل تفاصيل قصته، سنفهم وقتها أن ذلك كان مقصودا وليس عفويا؛ لأنه سيعيد استخدام القصة مرة أخرى وستجد موقعها في ذاكرته، فلا بد إذن أن تأتي مُحكمة وصادقة.

» رثاء العالم

يحمل العمل نوعًا من الرثاء لعالم يغيب فيه الحكي والعلاقات الحية مقابل سيطرة التقنية، ويرصد في جانب منه شكلا من طبيعة العلاقات التي تسود عالمنا الراهن الذي تحول فيه الإنسان إلى شاشة، حيث تغيب العلاقة التفاعلية المباشرة، ويتحول الإنسان نفسه إلى النموذج الأساسي لعصر الإعلام «الشاشة» هنا تختفي العلاقات الحية التي تتضمن التفاعل بين الأنا والآخر، لكن الأهم من ذلك ما يفصح عنه العمل من نقد لوسائل التواصل الحديثة وكيف حولتنا إلى ذوات منفصلة عن بعضها.

» الحوار والصورة

يعتمد الفيلم بصورة رئيسة على الحوار، كما يعتمد على الصورة المقربة التي لا تترك مساحة أمام تكوين كادرات واسعة، لكن طبيعة المكان الذي اختاره الحمود لتصوير حكايته فرض أن يكون التصوير هكذا، ومع ذلك فقد عوَّض الحوار غياب المشهدية داخل الفيلم، وربما يكون التحدي الرئيس الذي يواجه هذا النوع من الأفلام الحوارية أن يأتي السرد الحواري بطريقة لا تصيب المشاهد بالملل، والحقيقة أن المشاهد لن يشعر بالملل في أي جزء من أجزاء الفيلم، ربما لأن نقلات الحوار جاءت سلسة ومتنوعة، وربما للحظات الصمت التي تتخلل الحوار فمنحته قدرا كبيرا من الواقعية، لكن الأهم أداء الممثلين «إبراهيم الحساوي ومشعل المطيري» فقد تفوق كل منهما على نفسه.

» استدعاء البداية

ينتهي «فضيلة أن تكون لا أحد» بمشهد يستدعي بدايته، حيث يقف أبوناجي على قارعة الطريق يشير بيده لإحدى السيارات فتتوقف ويركب جوار السائق، تظلم الشاشة حاملة تترات النهاية ومن ورائها يأتي صوت أبوناجي قويا واثقا يحكي بكل شجن عن ابنه محمد الذي فقده في الكعبة أثناء تأدية مناسك العمرة، وعن زوجته التي انفصل عنها...إلخ. تمتزج كلمات أبوناجي بكلمات الفنان الراحل طلال مداح التي تشدو قائلة «أنا راجع أشوفك سيرني حنيني إليك، أسأل عن ظروفك وتأثير الليالي عليك، رجعني إللي شفته معاك، يدفعني عشان ألقاك، وأنا راجع أشوفك».