د. إبراهيم العثيمين

تدخل الاحتجاجات الشعبية في لبنان أسبوعها الأول، مع استمرار تزايد الناس المتدفقين إلى الساحات لليوم السابع على التوالي، رفضًا للنخبة السياسية الحاكمة على المستويَين التشريعي والتنفيذي، والدعوة للإطاحة بجميع الرؤوس في الحكومة، بدءًا من رئيس الجمهورية ميشال عون، ومرورًا برئيس الوزراء سعد الحريري، وانتهاء برئيس البرلمان نبيه بري، ورفضًا كذلك للورقة الإصلاحية التي تقدمت بها الحكومة اللبنانية، في محاولة لتهدئة غضب الشارع، والدعوة للتحضير لتشكيل هيئة تأسيسية لإعادة إنتاج سلطة جديدة.

لا أحد كان يتوقع هذا الحجم، وهذه الأعداد من المتظاهرين، والتي كسرت كل التابوهات القديمة، وأصبحت متخطية لكل الطوائف والمذاهب والأحزاب والتجمّعات السياسية، وحتى الحزبيون الذين كانوا يشاركون فيها يتخلون عن شعاراتهم قبل الوصول إلى ساحات الاحتجاج، فالمشاركون في المظاهرات من جميع فئات وطبقات المجتمع، بشكل أكثر بكثير من الحركات الجماهيرية لعام 2005.

وبالرغم من أن تطبيق الـ «واتس آب» مهم جدًا للبنانيين؛ للتواصل مع عائلاتهم في الخارج وفي الداخل، نظرًا لارتفاع أسعار الخدمات الهاتفية، لكن لا يمكن تسمية هذه المظاهرات بثورة الـ «واتس آب».. فمسألة الضرائب على المكالمات عبر الإنترنت وغيرها من السياسات لم تكن هي السبب الرئيسي للمظاهرات الحالية، ولكنها بالتأكيد لعبت دورًا أساسيًا للنزول للشارع، والتعبير عن الغضب نحو النظام السياسي.. فهذه الاحتجاجات هي نتيجة لتراكمات كبيرة، وفشل النظام القديم في السنوات الأخيرة في حل هذه المشاكل.

فلبنان أصبح يعاني منذ عدة عقود من أزمات اقتصادية كبيرة، انعكست بدورها على قدرة الحكومة في تأمين الخدمات الرئيسية.. وأصبح هناك ترهّل في البنية التحتية.. فالدَين العام يُقدّر اليوم بأكثر من 86 مليار دولار، أي أكثر من 150 في المئة من إجمالي الناتج المحلي، فهي ثالث أعلى نسبة في العالم بعد اليابان واليونان. ورأينا كيف أنه في عام 2015 شهدت البلاد أزمة في النفايات دون أن تجد الحكومة حلًا مستدامًا لها.

هذه الأزمة الاقتصادية، بالإضافة إلى فساد الحكومة ترجع إلى تراجع عاملَين أساسيين، هما السياحة التي تعتمد عليها لبنان بشكل كبير، وتمثل أحد أهم مصادر الدخل في خزينة الدولة، والتي تراجعت بسبب العوامل الأمنية والسياسية التي تشهدها لبنان، والتي أثرت على مستوى السياحة.. وكذلك تراجع كبير لتدفق أموال المغتربين بسبب تراجع اقتصادات الدول التي يقطنها المغتربون، مع ما يرافقها من تراجع في الإيرادات، وفي فرص العمل فيما يتعلق بأموال المغتربين.

يفاقم هذه الأزمة الاقتصادية، وعدم القدرة على الإصلاح، التجاذبات السياسية المتمثلة في الصراعات السياسية والطائفية، وعقد ذلك أزمات أوسع نطاقًا في الشرق الأوسط، ومن بينها الحرب في سوريا المجاورة، والتي كانت سببًا آخر في شلل النظام؛ مما عزله عربيًا.

لكن كل ذلك يُعتبر إرهاصات لأزمة عميقة تكمن في بنية النظام اللبناني نفسه، والذي يعاني من الطائفية السياسية التي وضع أساسها دستور 1926، وكرّسها اتفاق الطائف 1989 الذي وضع حدًا للحرب الأهلية 1975- 1990، وتمّ تعديل الدستور على أساسه؛ مما أدى إلى الترهّل المؤسساتي، خاصة المؤسسات الأمنية؛ بسبب بروز انتماءات وولاءات إلى هويات (ما دون الدولة) ( حزب الله مثالًا)، والتي تقوم مؤسساتيًا مقام الدولة، وبسبب ضعف الدولة، أدى ذلك إلى إتاحة المجال أمام التدخل الخارجي؛ مما أدّى إلى تقييد أي ردع من قِبَل الدولة، وبالتالي شل مؤسساتها.

أعتقد أن المظاهرات العارمة التي توحَّدت بسبب الوجع الاقتصادي والمعيشي، ولم تُستَثنَ منها أي منطقة أو طائفة، غيَّرت من قواعد اللعبة في لبنان، وأصبح المجتمع الذي رزح تحت الطائفية السياسية عقودًا طويلة وصار جزءًا من نظامه الاجتماعي، مهددًا بالتفكك والتغيّر.. وحان الوقت على اللبنانيين لأن يفكروا في مرحلة انتقالية تخرجهم من هذا النظام المسبب للأزمات في البلاد، بدل أن يكون مصدرًا لحلها، والدفع نحو عمل توافق سياسي جديد يطرحه اللبنانيون من داخلهم بعيدًا عن هذه التقسيمات الطائفية.