إبراهيم باحاذق

نبع من المشاعر الفياضة التي لا تستأذن في الظهور، بل تباغتك هكذا دون استدعاء، هكذا هي علاقتنا بالوطن، صدق وحمية وشوق جارف يحملنا إلى ضفافه، كلما ابتعدنا عنه ولو قليلا.

أتأمل كثيرا تلك العلاقة، وأقول ما الذي يعنيه الوطن؟ هو الأرض أم الناس أم أهلي وآبائي وجذوري الممتدة في تربته، أعود ثانية إلى مبتدأ السؤال، لأجيب عنه بأنه كل هذا مجتمعا، أرض وسماء وناس وأهل وأجواء، شيء شديد التركيب، خلطة متكاملة لا ينفصل فيها شيء عن شيء.

أعود إلى مشتملات العصر الذي نحياه، ألاحظ مشكلة خطيرة تتعلق بالمخاوف من ضياع الهوية، وانكماش الخصوصية التي كانت تتمتع بها المجتمعات فيما سبق، يعود هذا إلى آثار العولمة والانفتاح الحاصل؛ بسبب تطور وسائل الاتصال، ووصولنا إلى درجة لم يكن يتخيلها أحد من التقدم التقني. حيث أكثر المتضررين من مفرزات ذلك التطور هم الأطفال والنشء، والذين أصبحوا متأثرين بشكل لا يوصف بطباع العامة من المجتمعات الأخرى الواردة إليهم عبر فضاءات الإنترنت، سواء أكانت تلك الطباع مفيدة أم ضارة، في حين أن الضار نعلم جميعا أنه جذاب أكثر خصوصا لمن هم في عمرهم.

لقد تسببت شبكات التواصل الاجتماعي في انفتاح المجتمعات على بعضها البعض، الأمر الذي سيذيب معه خصوصية الأوطان، وسيضرب - بقوة - فيما له من عادات خاصة وتقاليد نوعية، مما سيترتب عليه خفوتا وتعلقا أقل بالوطن وما له علينا من حقوق.

من هنا فإن تربية الأطفال والنشء لم يعد يجوز معها الطرق التقليدية التي تربينا عليها، وإنما صارت تتطلب طرقا جديدة كليا، تتلاءم مع مستجدات العصر، ومع تحدياته التي صار أكثرها مؤثرا فعليا بشكل سلبي على تركيبة الانتماء والوطنية.

إن التقنية الحديثة بكل صورها والتي تتلخص أحيانا في مجرد هاتف ذكي، لا يجب التعامل معها في تربية أبنائنا بمنعهم عنها والتشدد في ذلك، فهذا أضحى شيئا مستحيلا وخارج نطاق السيطرة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وإنما الأصلح والأنفع هو إتاحة المجال لهم أن يستخدموها بعد أن نضعهم بشكل حاسم أمام أخطارها وما يمكن أن تسببه من ضرر، وبعد أن نعرس فيهم بشكل دوري ومتكرر - غير منقطع - معنى الوطن ومعنى الدين، ومعنى أن تكون مواطنا بناءً في المجتمع.

إن ما سبق يشكل ملامح نحو معالجة فعالة لما يمكن أن يترتب على التقنية من أضرار فيما يخص الانتماء، وفيما يخص كذلك الأخلاق والقيم، وامتلاك هوية معبرة عن وطننا، لا هوية عالمية ننسلخ بها عن بيئتنا إلى صور وطباع أخرى لا تمت لنا بصلة.

من جانب آخر، فإنه تقع على المناهج التعليمية مسؤولية كبيرة في غرس القيم الوطنية في أبنائنا، إذ لا يمكن أن تقتصر على الجانب النظري فقط، بل يجب أن تمتد التربية الوطنية لأبنائنا إلى جوانب أخرى تطبيقية، مثل الزيارات والرحلات للأماكن التراثية، واطلاعهم على المعالم المختلفة والأماكن الجميلة التي تحببهم أكثر في هذا الوطن الغالي.