د. فالح العجمي

تحدثنا في الجزء الأول عن التصور الشاماني في وصف الشعر العربي القديم، وكيفية ارتباطه بأغراض كانت سائدة آنذاك مثل شعر الهجاء، كما ذكرنا بعض السمات المتعلقة بالقوة السحرية للكلمات، التي كان يظنها العرب مرتبطة بكون الشاعر على علاقة بأشخاص يلهمونه من العالم غير المرئي (عالم الجنّ). وفي كل تلك الخلفيات طبعاً تتداخل مكانة الشاعر، ومدى إلهامه – بوصفه مثقف تلك العصور - وقدرته على بلورة ذلك الوحي الذي يتلقاه من قرينه ذي القدرات الفائقة وغير المعتادة في مجتمعه. وفي هذا الجزء نتحدث عن جانب «الوعي»، الذي تخلقه مثل تلك الرؤية في الثقافة العربية، ومدى تغلغلها في رسم المخيلة العربية وتطوراتها عبر التاريخ.

وقبل أن نعرض لآثار ذلك التاريخ الطويل في تكوين الوعي الجمعي لدى شعب من الشعوب، يجدر بنا أن نعرّف ما نقصده من مصطلح «الوعي»، حيث تتضاد دائماً في الدراسات المتعلقة بهذا الشأن مجالات «الوعي» مع الحيّز المعني من الذاكرة في إطار ما يطلق عليه «اللاوعي» في الدراسات النفسية. لكننا لن نهتم بتلك المحددات المعنية بالجانب الفكري من الشخصية؛ بل يعنينا في المقام الأول الجانب الوظيفي في «الوعي» و«اللاوعي» بوصفهما محددين اجتماعياً، حيث يكون الوعي إشارة إلى إدراك العواطف والرغبات والأحكام المتعلقة بالمحتوى؛ بينما يكون المرء في حالات اللاوعي في وضع عقلي لا يدرك فيه المرء تجاربه الداخلية. ففي الحالات الواعية يدرك المرء ويعي كل مشاعره وأفكاره، التي يتاح لها أن تنفذ من المصفاة ذات الطبقات الثلاث (المحددة اجتماعياً): اللغة والمنطق والمحظورات (أو الطبع الاجتماعي)؛ أما التجارب التي لا تقوى على النفاذ من هذه المصفاة، فتبقى خارج الإدراك والوعي، أي أنها تبقى حالات لاواعية. ومحتوى الوعي -عادة- تخييلي وضلالي في معظمه، ولا يمثل الواقع بدقة. ومن غير الممكن تحقيق أي شيء له قيمته إلا بانكشاف الواقع المخبوء (اللاوعي)، ومنعه عن أن يكون مخبوءاً، فيصبح فاعلاً. إذ إن معظم ما يشتمل عليه وعينا هو «وعي زائف»، وأن المجتمع هو الذي يملأ عقولنا بهذه الأفكار التخييلية غير الواقعية. عودة إلى تقويم الوظيفة السلبية لهيام العرب بالشعر، وكونه هو ديوانهم ومصدر علومهم وثقافتهم وممثلا لفئاتهم في الداخل والخارج، وهو يعتمد أساساً على التخييل؛ فقد طبع تلك الثقافة على امتداد الزمان بطابعه المتعالي، وأسهم في أسطرة الوعي، وخلق عالماً رومانسياً من العلاقات بين ظواهر الكون وإنسان المنطقة العربية في صور بديعة، لتتحول إلى عناصر الوعي الجمعي في الثقافة العربية. وحيث إن المجتمع -كما ذكرنا أعلاه- يحول بين أفراده وبين إدراك الواقع، ومع مرور زمن طويل جداً على رسوخ هذه الظاهرة، فإن تلك السمات قد تحولت إلى العقل الباطن للمجتمعات العربية.

ومن هنا نجد العربي في العصر الحاضر ربما يعيش في تناقض بين تفكير ذي بينة أسطورية؛ ورثه من ذلك التراث العريق، بما تحتويه تلك البنية من ذاكرة توافقية شمولية ومنفتحة على التجليات الرمزية للكينونة، وبين تفكير ذي بنية تاريخية؛ استقاه من التأطير القومي والديني، بما تحتويه تلك البنية من ذاكرة مقسومة مبعثرة وجزئية ناقصة، وبذلك تكون غير حيادية ولا منصفة. فأصبحت الثقافة العربية في صراع بين التواؤم مع العالم وبين التمسك بقيم الخصوصية الذاتية.