فهد السلمان

هنالك مهن محددة كالقضاء والتمريض لا يمكنك أن تتقنها من خلال التعليم ما لم تكن لديك جملة من المؤهلات والخصال النفسية والعقلية والروحية التي خُلقت معك لتجعل منك مميزا فيها. تستطيع مثلا أن تكون عالما في الفيزياء، أو في الهندسة، أو في الخوارزميات وغيرها، متى ما هيأت نفسك لدراسة هذه العلوم واجتهدت وأخلصت لها، لكن لا يمكن بحال أن تكون هنالك ممرضة ناجحة ومميزة دون حس إنساني يتجاوز المألوف، كذلك الحال لا يمكن أن ينبغ القاضي مهما درس على أيدي أمهر القضاة، وألم بالشريعة والقانون والنظم، ما لم يكن لديه ذلك الاستعداد الذهني والفطري لفهم النفس الإنسانية، والنباهة، والفطنة، وقوة الحدس، والفراسة، والقدرة على الالتقاط، لذلك قلة هم القضاة الذين احتفظت ذاكرة تاريخنا العربي بهم من وزن القاضي إياس وأبو يوسف وقاضي المارستان أبو بكر الأنصاري. لذلك أعتقد أن أي تطوير لهاتين المهنتين مهنة القضاء، ومهنة التمريض لا يمكن أن يتحقق حتى ولو أنفقنا عليه كنوز الدنيا، بل لو أتينا بكل عباقرة القضاء على ظهر هذا الكوكب، وعلى رأسهم الثلاثة الذين أشرت إليهم قبل قليل، ليصنعوا لنا قضاة مثلهم، ما خرجنا إلا بقبض الريح وحصاد الهشيم، ما لم نصل إلى آلية فرز دقيقة لاختيار العناصر المؤهلة للاضطلاع بهذه المهمة، وهذا يستدعي جملة من الاختبارات لكشف الشخصية وتجلياتها في شتى المواقف، سواء الاختبارات المباشرة، أو تلك التي تتم خفية لمراقبة ردود الفعل في المواقف، كذلك الحال بالنسبة لمهنة التمريض، والتي تلتقي مع الإنسان في أتعس حالات ضعفه، وتحتاج أول ما تحتاج إلى استعداد فطري لقبوله في تلك الحال المنكسرة، وتحمل أثقال روحه وجسده وآلامه، وهي مهمة عسيرة قد لا يتحملها الإنسان مع بعض أهل بيته، فما بالك مع الغريب، ما لم يكن مسلحا بروح إنسانية عابرة للتأفف، تقترب من الملائكية لذلك وصفهم البعض بـ «ملائكة الرحمة»، وهي بالمناسبة صفة لا تليق بالجميع، لأن من بينهم بكل أسف من يقترب من صفة رسل عزرائيل، خاصة ممن جاء إلى هذه المهنة على أنها وظيفة لا غير.

لذلك أرى أن نوفر أموالنا في عمليات تطوير هاتين «الرسالتين» لأنها ستكون غير مجدية، ما لم نتنبه إلى أن المدارس والمعاهد والجامعات إن كانت مؤهلة لتخرج لنا محاسبين ومهندسين وعلماء في النانو، فإنها لن تستطيع أن تقدم لنا قاضيا فذا واحدا، ولا ممرضة متميزة واحدة، ما لم نكتشف فيهما قبل الدراسة مقومات القاضي، ومقومات الممرض أو الممرضة لسبب بسيط وهو أنها مهن بمؤهلات فطرية.