خليل الفزيع

عندما يواجهك سفيه بما يغيظك، فأنت أمام أمرين لا ثالث لهما، إما أن تجاريه في سفهه، أو تترفع عن الرد عليه، وفي الحالة الأولى تتساوى معه في السفه، وفي الحالة الثانية تملك الوقت لتحدد وقت الرد وكيفيته، حتى لا تنزلق في الشرك الخفي المنصوب لك من وراء ذلك السفيه، وبذلك يصبح عدم الرد حكمة تأخذ في الحسبان مساوئ التسرع، بما يعنيه من انفعال غير محمود العواقب، وفي الأدبيات العربية قيل:

إذا نطق السفيه فلا تجبه

فخير من إجابته السكوت

فإن كلمته فرجت عنه

وإن خليته كمدا يموت

وهذا مما ينسب للإمام الشافعي الذي ملأ الدنيا حكمة واتزانا.

وعدوك عندما يحاول جرك لمستنقع المواجهة الانفعالية وهو يدرك أنك أقوى منه، فما ذلك سوى عبث غير مقدر النتائج، خاصة إذا كان وراءه مستفيد يهمه ترويج أدوات الخصومة، ويغمه أن يسود الأمن ويعم السلام بين كل الأطراف، فهناك أدوات للدمار لا بد من تسويقها، ولن يتحقق هذا التسويق عندما يسود الأمن ويعم السلام. ولا شك أن حكمة تقدير الأمور وتحديد المواقف لا يملكها إلا ذوو العزم من الرجال، الذين يفكرون مليا قبل الإقدام، ويثمنون عاليا النتائج، بعد أن ملأ الحمقى هذا العالم، وسدوا أمام العقل منافذ التروي ومسالك التأني، وسبل التفكير السليم.

رب الأسرة غالبا لا يفكر في الإقدام على أمر إلا وهو يفكر في أسرته، وما يمكن أن يعود عليها من خير أو شر، نتيجة ردود فعله، وهو أكثر يقينا من غيره بأن ردود فعله مهما كانت إنما تستهدف مصلحة أسرته، بأن لا يأتيها الضرر من أي مصدر، وهنا يكون النأي بالنفس عن ردود الفعل المباشرة، أمرا محمودا، وليس ترددا ناجما عن ضعف، بل هو تفكير ناجم عن قوة.. تلك هي قوة الإرادة، وقوة التصدي للاحتمالات السلبية، وقوة اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب.

ليس بدعا أن يركب موجات الخصومة معك من يملك تاريخا عريقا من العداء الموروث، وليس بدعا أن يحاول النيل من مكانتك من يغيظه أمنك، ورخاء عيشك، وتألق سمعتك، فالحسد طبيعة من طبائع البشر لكنها طبيعة مذمومة ومستنكرة، لا يعرفها الأسوياء من الناس، ولا يلجأ إليها الواثقون من أنفسهم، بل هي وسيلة العاجز عن بلوغ ما بلغت، وأسلوب الوالغ في مستنقع الكيد والكراهية، وطريقة الموتور في التنفيس عن أحقاده، وقد قيل:

دع الحسود وما يلقاه من كمد

يكفيك منه لهيب النار في كبده

إن لمْتَ ذا حسد نفّسْت كربته

وإن سكتّ فقد عذبته بيده

الحياة لها وجهان، وجه للخير ووجه للشر، ووجه الخير لا يسعى إليه إلا أصحاب الهمم العالية، والنفوس الكبيرة، والأهداف السامية، والقلوب المفعمة بالإيمان، والواثقة بالنصر على أهواء النفس الأمارة بالسوء، وهو أمر لا يتسنى لكل الناس، وهذه إرادة الله في خلقه، أما وجه الشر فإن الساعين إليه هم من سخط الله عليهم، واتبعوا أهواءهم، وانهزموا أمام نزواتهم، وأضلهم الشيطان عن سواء السبيل، فأصبحوا من المغضوب عليهم الموغلين في دروب الشر، والمهرولين إلى التهور والطغيان، لذلك كانت الحكمة ضالة المؤمن، ويبقى هذا الأمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وليس أمام الأخيار إلا مواجهة الأشرار بهذه الحكمة البالغة، حكمة التروي والتأني، وعدم التسرع في اتخاذ القرار، والتفكير العميق في النتائج المحتملة، والاستعداد لها بما يلزم من الوعي والمسئولية.