د.ابراهيم العثيمين

عندما تذكر الحضارة الإسلامية يتبادر إلى الذهن من أول وهلة مقدار العنف الذى ارتبط بها، وأنها حضارة انتشرت وتوسعت بالإكراه وبحد السيف، هذا ما ترسخ في المخيلة والعقلية الغربية أو ممن تأثر منهم من العرب، والتي رزحت طويلا تحت هيمنة تحيز بعض المستشرقين الذين ساهموا في صياغة معظم المناهج الدراسية التي تدرس في المدارس والجامعات عن الإسلام والمسلمين، في شكل يوحي بأن العنف ملازم للفكر وللحضارة الإسلامية وأن الإسلام دين يحث أتباعه على العنف والإرهاب. إلا أن الحقيقة أن الحضارة الإسلامية كانت أقل الحضارات نزعة للعنف وأكثر تمدنا بالمقارنة بالحضارات الأخرى، وهذا ما اعترف به المنصفون من المستشرقين للحضارة الإسلامية، وأقروا لها بالفضل في إرساء حجر الأساس للحضارة الأوروبية الحديثة.

أعد الدكتور نافيد س. الشيخ «Naveed Sheikh»، من جامعة لويسفيل بالولايات المتحدة، دراسة في عام 2008، تستعرض بشكل كمي العنف السياسي عبر الحضارات العالمية. وتسعى الدراسة لتقدير عدد القتلى من البشر الناجم عن العنف الديني والسياسي (الأحداث العامة الكبرى كالحروب والحروب الأهلية والمذابح السياسية والعرقية) في الفترة منذ بداية التاريخ الميلادي أي طوال الألفيتين الماضيتين إلى عام 2008 وربطها بالحضارات الدينية الثقافية. وجاءت الدراسة تحت عنوان Body count. A quantitative review of political violence across world civilizations، «عداد القتلى.. دراسة إحصائية للعنف خلال حضارات العالم»، تناولت الدراسة 321 حالة من أصل 3000 صدام عنيف في التاريخ، يرى الشيخ أنها من أعنف الصراعات حيث كل منها حصد من القتلى ما يقدر بحوالي 10 ملايين إنسان، ثم قام الشيخ بعد ذلك بترتيب النتيجة وفق خطوط حضارية لبلوغ فهم مقارن للعنف المتكيف اجتماعيا ودينيا، ولمعرفة عدد ما قتله التابعون لكل حضارة وديانة على حدة وتوفير إحصاءات إجمالية لذلك. وقد شملت الدراسة عددا من الحضارات الإنسانية والمعتقدات الدينية: (الإسلام والمسيحية والبوذية والهندوسية بالإضافة إلى الصينيين وعدد من الحضارات البدائية)، ولم تشمل الدراسة الديانة اليهودية إذ اعتمدت بالأساس على ما وصفته بـ «الحضارات» ولم تشمل كل الديانات. وبحسب الدراسة: فإن الحضارة أو الديانة المسيحية تأتي على رأس القائمة بـ 73,30 % بقتل أزيد من (177.941.750)، ثم يأتي بعدها الملحدون بـ 64,21 % (125.287.500)، ثم الصينيون بـ 18,64% ( 107.923.750)، يليهم البوذيون بـ 15,19 % (87.946.750) ثم الحضارات البدائية بـ 7,87، % (45,561,000) ويأتي المسلمون في المرتبة ما قبل الأخيرة بـ5,52 % (31.943,500)، وفي المرتبة الأخيرة يأتي الهندوس بـ 0,41 % ( 2.389.250).

فلو كانت الحضارة الإسلامية حضارة عنف وانغلاق فكيف يمكن تفسير انفتاحها على الحضارات الأخرى مثل الحضارة الهندية وحضارة الفرس في الشرق وحضارة اليونان في الغرب. تقول المستشرقة الإيطالية الدكتورة ريتا دى ميليو أستاذة الدراسات الإسلامية بجامعة روما وصاحبة كتاب «الإسلام ذلك المجهول في الغرب»: إن الحضارة الإسلامية «حضارة إنسانية قامت على أسس صحيحة تقبل بالتعددية الثقافية والدينية وأن هذه الحضارة قد قدمت للبشرية تراثا زاخرا بكل أسباب التقدم». ولم تقتصر الحضارة الإسلامية على الانفتاح على الحضارات الأخرى، بل إنها أثرت في الحضارات الأخرى تأثيرا كبيرا. ففي كتاب «شمس العرب تسطع على الغرب: أثر الحضارة العربية في أوروبا» للمستشرقة الألمانية سيغريد هونكه، ألقت الضوء على مدى تأثر العالم الغربي واستفادته من العالم العربي والتراث العربي في شتى النواحي. وبالتالي لا يستطيع أحد إنكار إسهامات العالم العربي والإسلامي في الثقافة الإنسانية.