د.عادل غنيم

ثمة مشكلة إزاء التعامل مع الأحداث لم يعد هناك مفر من الاعتراف بها، وهي غياب مهارة التحليل لقضايانا في شتى المجالات، لا سيما مع ضراوة الأحداث وما يدور حولها من تعليقات وتعقيبات وتوجهات.

وعندما ندقق فيما يرد على ألسنة الكثير من المتحدثين في الفضائيات أو مواقع التواصل الاجتماعي نلمس المبالغات التي تطلقها لغة عاطفية تقذف بالاتهامات دون أدلة حاسمة، وتختلق روايات واهية دون أن يكون لها صلة بالوقائع.

وهنا تكمن ضرورة إفساح المجال لمن يتقن المهارة التحليلية للأحداث عبر التفكير المنطقي في حقائقها وملابساتها وتأثيرها الواقعي واستنتاج أفكار عملية وعلمية وتحقيق عنصر الوقاية الشاملة في واقع الأزمة، والبعد عن الأحكام المطلقة.

لقد أوضح ريتشادر جي هيور Richard J. Heuer أن: «التفكير بطريقة تحليلية يعتبر مهارة مثلها مثل النجارة أو قيادة السيارات. بالتالي يمكن تعلمها وتعليمها كما يمكن تطويرها بالممارسة. ولكن كغيرها من المهارات، كركوب الدراجة على سبيل المثال، لا يمكن تعلمها وأنت جالس في الفصل المدرسي ويتم تلقينك ماذا عليك أن تفعل. فقد تعلم المحللون من خلال الممارسة والتطبيق».

وتتجلى أهمية المهارة التحليلية للأحداث في الوصول إلى معالجة القضايا والمواقف بشكل أكثر وعياً وعمقاً، والتعامل مع الواقع كما هو؛ لتوصيفه وتفسيره وتحليل أبعاده ومقاصده ودوافعه، عرضاً للحقائق المدعمة بالدلائل والوثائق والبراهين، بعيدا عن المعالجة العاطفية أو التي لا تستند إلى أدلة كافية.

وتتطلب الأحداث التي يلفها الغموض والتضليل المتعمد مناقشة الآراء وتفنيدها، وتعزيز التحليل بالأرقام والوقائع والربط بين الأحداث وتنظيم الأفكار للوصول إلى الفهم الدقيق للحدث دون صراخ أو تشنج للوصول إلى الفهم الدقيق لمسارات الحدث والأسباب الدافعة لها.

قد لا يتمكن القارئ العادي من تحليل الحدث لافتقاده إلى مهاراته، لكن عليه أن ينتبه إلى ما يثار حول الحدث من أقاويل مختلفة تعمل على تغييب الحقيقة بسبب الجهل أو التسييس أو قصد الإخفاء والتعتيم.

والمهمة الكبرى تقع على عاتق أهل الاختصاص في أقسام السياسة والاقتصاد في الجامعات، ومراكز البحوث المتخصصة في الدراسات الاقتصادية والسياسية وغيرها.

وفي عالمنا الإسلامي تتأكد الحاجة للبحث عن محللين متخصصين للأحداث حتى لا يتصدى له من لا يحسنه.

لقد صدرت تحذيرات صريحة على لسان النبوة من أن يتصدى لهذه المهمة أناس لا حظ لهم من العلم والدراسة وأطلق عليهم اسم (الرويبضة) فقال رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ‏«‏سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتٌ يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ وَيُخَوَّنُ فِيهَا الأَمِينُ وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ قِيلَ وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ قَالَ الرَّجُلُ التَّافِهُ يتكلم فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ» رواه الحاكم في المستدرك وفي رواية: «السَّفِيهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ العَامَّةِ». مسند أحمد (2/‏ 291).

ويفسر الإمام الشاطبيّ الرويبضة بقوله: «هُوَ الرَّجُلُ التَّافَةُ الحَقِيرُ يَنْطِقُ فِي أُمُورِ العَامَّةِ، كَأَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي أُمُورِ العَامَّةِ فَيَتَكَلَّمُ» الاعتصام (2/‏ 681)

وصدق ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ الله عَنْهُ الذي قال: «لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا أَخَذُوا العِلْمَ مِنْ أَكَابِرِهِمْ، فَإِذَا أَخَذُوهُ عَنْ أَصَاغِرِهِمْ وَشِرَارِهِمْ هَلَكُوا».

ولا يعني هذا أن نطلق هذا الوصف على شخص معين لخلاف معه بالرأي والفكر؛ فهذا اتّهام وتجريح غير مقبول، ولكن هو تحذير عام من أن يتصدر للكلام العام من ليس له بأهل.