د. فالح العجمي

لو انطلقنا من مقولة الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا، الذي يؤكد بصورة قاطعة، «أن البهجة هي مدخل العقل إلى الحالة الأكثر مثالية، وأن الألم هو المعبر إلى الحالة الأكثر تدنيًا»؛ فإننا نكون قد قطعنا الطريق نحو اختيار كون السعادة طموحًا ذاتيًا، وسبيل تحقيقها منوط بالفرد نفسه. إذ لا يمكن أن يشارك المرء أحد في تحديد آليات اشتغال عقله، إلا إن سلّم مفاتيح العقل إلى آخرين طوعًا.

ومدى تأثير الابتهاج ليس محصورًا في العقل فحسب، بل يتعداه إلى التأثير في البدن وجميع وظائفه البيولوجية، وفي المقابل تؤدي مشاعر التعاسة إلى الإخلال بكثير من الوظائف الحيوية من خلال الإفراط في إفراز بعض الهرمونات الخاصة بحالات الطوارئ، أو النقص في الدفع بهرمونات ضرورية لعمليات التوازن واستمرار الدورة الطبيعية لجسم الإنسان. ومثل هذه العمليات تؤدي مرة أخرى إلى اعتلال نفسي، قد يفضي إلى حالات توتر واكتئاب، فتصبح حينها مسببات المشاعر السلبية متعددة المصادر، ويدخل المرء في دوامة يصعب الخروج منها.

وقد ألقت بعض الأبحاث الحديثة الضوء على العلاقة بين الجسد والروح، التي أغفلها العلماء لفترة طويلة. فاستخلصت بعض تلك الدراسات، أن مشاعر الخوف (أو التخويف المستمر) والانكسار الدائمة تحمل أخطارًا محدقة على الصحة؛ لأنها تعني استمرار المعاناة من التوتر، ومن الثابت أن الشعور بالتوتر يتناسب طرديًا مع أخطار الموت بالنوبة القلبية أو السكتة الدماغية. ومن استطاع أن يتعلم، كيف يتغلب على مزاجه المتعكر، ويقوي تجاربه المبهجة، فإنه يقوم بعمل رائع باتجاه حماية صحته البدنية والنفسية، حيث تؤدي المشاعر الإيجابية إلى مقاومة نتائج التوتر الناتجة عن ضغوطات الحياة والبيئة الاجتماعية المباشرة، كما تكون تلك المشاعر فاعلة في تقوية نظام المناعة الذاتية.

ومن ناحية أخرى، فإن التشبث بمسببات البهجة يثمر أيضًا في رفع كفاءة العقل، ففي الدماغ تمثل الأفكار والمشاعر وجهين لعملة واحدة: فالأفراد السعداء يكونون أكثر إبداعًا. وكما تشير كثير من الدراسات، فإن أولئك السعداء يحلون المشكلات بصورة أفضل وأسرع، فالسعادة تورث ذكاء، وليس ذلك في الزمن الآني فحسب، بل في كل مراحل حياة الإنسان. مثلما أن المشاعر الإيجابية تجعل شعيرات الروابط العصبية في الدماغ تنمو، فالبهجة تدب من خلال مسارات جديدة في رؤوسنا باستمرار. علاوة على أن البشر السعداء هم أناس أكثر لطافة، وهم أكثر انتباهًا للآخرين، وأكثر استعدادًا لرؤية المشاعر الطيبة عند الآخرين. ولكونهم كذلك، فإنهم يهبون أنفسهم لخير البيئة التي يعيشون فيها، ويتمتعون بقدرات كبيرة في التفاوض، وإقناع المتحاورين بأن يكونوا مع الحق والعدل.

فالسعادة إذن هي هدف في الحياة، وفي الوقت نفسه طريق لحياة أفضل، حيث تؤدي بالإنسان إلى التوسع في الإمكانات المتاحة، مما يمكن وصفها بأنها وسيلته في خلق الحيوية. أما المشاعر السلبية، فإنها تحد من قدرات الإنسان، وتجعله لا يرى كثيرًا من طرق الحياة البديلة، كما تُضعف رؤيته الشاملة للحياة وللعالم من حوله. والفكرة الأكثر جوهرية في الموضوع، أنه فقط من يعرف السعادة، يمكنه أن يجدها. فلا توجد وصفة سحرية للوصول إليها، كما أن وسائلها ليست مادية، كما يدعي كثير من مروجي السلع الاستهلاكية، بل هي إرادة قبل كل شيء. مثلما أن السعادة تختلف من شخص إلى آخر، فهي متفردة وذات انعكاس ومحور متعلق بشخصية الإنسان نفسه، لكن شيئًا جوهريًا يؤدي إليها، هو اصطناع طرق البهجة منهجًا في الحياة، وعدم التوقف عند المنغصات. فافرحوا وافرحوا وافرحوا، وغنّوا وصفقوا لكل ما يجلب لكم البهجة! واتركوا عنكم دعاة العبوس والقنوط والفناء! فهم ليسوا ضد مباهج الحياة فحسب، بل ضد الحياة بمجملها.