طلال عوكل

طلال عوكل

فيما يتجنب الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي تحمل مسؤولية الإعلان عن فشل المفاوضات المتقطعة والمتعثرة الجارية بينهما منذ الثاني عشر من ديسمبر الماضي، فإن ثمة خلافاً يصل حد التعارض، لا يزال يتشكل على مسافات مختلفة بين إسرائيل وكل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. فبالرغم من أن إسرائيل تواصل جهاراً نهاراً إدارة الظهر للشكاوى والاحتجاجات الفلسطينية، والانتقادات الدولية المتزايدة، بسبب تواصل الإعلانات الرسمية الإسرائيلية لمخططات استيطانية تشمل آلاف الوحدات السكنية، وبشكل خاص تصريحات أيهود أولمرت بشأن تركيز المخططات الاستيطانية في القدس، وكأنها شأن إسرائيلي خاص، إلا أن الطرفين يمتنعان عن رفع مستوى الاحتجاج إلى حد وقف المفاوضات. الطرف الفلسطيني خصوصاً يتجنب أن يعلن وقف المفاوضات رغم إدراكه لعبثيتها وعدم جدواها، حتى لا يسلّح إسرائيل بذريعة أن الفلسطينيين هم من يقوم بإفشال الإرادة الدولية التي تشكلت في آنابوليس وبعد ذلك في باريس وتسعى وراء تحقيق تسوية خلال العام الجاري. ليس هذا وحسب، بل ثمة ما يدعو للاعتقاد بأن المفاوض الفلسطيني، الذي يفقد الأمل بنجاح المفاوضات، يرغب من وراء الاستمرار فيها بدفع المجتمع الدولي نحو اتخاذ مواقف انتقاديه أكثر لإسرائيل بسبب ما تتحمله علنياً من مسؤولية إزاء تعطيل المفاوضات. بالمقابل تمارس إسرائيل سياسة نعم ولكن، بمعنى أنها تبدي حرصاً نظرياً على متابعة المفاوضات فيما تعمل بقوة على الأرض، بما يؤدي إلى دفع الفلسطينيين نحو اتخاذ موقف بقطع العملية التفاوضية، تحت ضغط العدوان والحصار والاستيطان الإسرائيلي الذي يتصاعد يوماً بعد آخر، وإلى حدود تفوق الاحتمال. إن إسرائيل في الواقع تتابع النهج ذاته الذي عبّر عنه خلال مؤتمر مدريد عام 1991، رئيس الوزراء الإسرائيلي حينذاك اسحق شامير، حين قال من موقع الاحتجاج على انعقاد المؤتمر: إن المفاوضات يمكن أن تستمر عشرين عاماً أو أكثر. ويبدو أن حكومة أولمرت لم تعد تشعر بالحد الأدنى من الحرج إزاء تزايد الانتقادات الدولية. خصوصاً التي تصدر عن حلفائها الأوروبيين والأميركيين على حد سواء، كما أنها لا تشعر بالحد الأدنى من الرغبة في مجاملة إدارة بوش، التي تراهن على تحقيق نجاح من خلال المفاوضات، ذلك أنه عدا عن أن أولوية أولمرت هي المحافظة على ائتلافه الحكومي، فإنه يعرف حدود قدرة الإدارة الأميركية على ممارسة الضغط على إسرائيل. هذا التعارض الذي يحرص الطرفان الأميركي والإسرائيلي على عدم إظهاره إلى العلن، يدفع الإدارة الأميركية لتكثيف اتصالاتها وتقديم المزيد من المغريات بدعم عسكري كبير لإسرائيل عسى أن يفلح كل ذلك في إقناع حكومة أولمرت بتغيير سلوكها إزاء المفاوضات. فلقد شجعت كوندوليزا رايس الحكومة المصرية على متابعة دورها من أجل تحقيق تهدئة بين حركة حماس وإسرائيل التي أبدت تجاوباً جزئياً، حيث مارست تهدئة نسبية على جبهة قطاع غزة، وعلى خط موازٍ صعدت من عدوانها على الضفة الغربية. وبالرغم من استمرار حالة الهدوء النسبي على جبهة قطاع غزة، عبر تفاهمات غير مباشرة، إلا أن الجانب المصري اضطر يوم الاثنين الماضي السابع عشر من الجاري، للإعلان عن فشل حوار التهدئة، متهماً بصراحة إسرائيل بالمسؤولية عن تعطيل الوساطة المصرية. هذا يعني أن إسرائيل تضرب عرض الحائط برغبة رايس في التهدئة، وتتعمد سلوكاً على الأرض مخالفاً للمواقف اللفظية. وفي وقت لاحق اضطرت رايس لتفعيل أول اجتماع للآلية الثلاثية منذ الاتفاق عليها في آنابوليس. حيث دعا الجنرال الأميركي ويليام فريز الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي إلى اجتماع لتقييم مدى الالتزام بتنفيذ خارطة الطريق، غير أن الاجتماع انعقد يوم الجمعة الماضي الرابع عشر من الجاري في غياب وزير الدفاع الإسرائيلي أيهود باراك الذي تهرب من الحضور، وأرسل نيابة عنه أحد مستشاريه عاموس جلعاد المعروف لدى الإسرائيليين بالسيد «لا». كان غياب باراك، الذي برر ذلك بالقول: إنه لا يمكن أن يضع نفسه في موقع اللوم، مؤشراً آخر على إمعان إسرائيل في سياستها، واستهتارها بالحليف الأميركي. في اليوم التالي اضطرت رايس لإبداء مرونة أكثر مع الجانب الإسرائيلي. حيث سمحت لأول مرة منذ عام 1967، للجنرالات الأميركيين المقيمين في إسرائيل، برفقة نظرائهم الإسرائيليين للتجول في أنحاء الضفة الغربية بدعوى أنهم دائماً يستمعون للرواية الفلسطينية، ويتأثرون بها. غير أن لا هذه ولا تلك من محاولات الخارجية الأميركية تجدي نفعاً، إذ أعلنت بعد ذلك الحكومة الإسرائيلية عن مخطط استيطاني لبناء أكثر من ألفي وحدة سكنية جديدة في القدس، أتبعها أولمرت بتصريح يقول إن «هارحوماه» أي جبل أبو غنيم هو جزء من القدس التي يعرف الجميع مكانتها بالنسبة لإسرائيل. والحال أن الإدارة الأميركية لم تجد طريقاً سوى رفع مستوى الاتصالات الدبلوماسية بإسرائيل وتقديم المزيد من الإغراءات لها، حيث قررت أن ترسل نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني بهدف معلن وهو دفع العملية السياسية. وقبله وصل إليها المرشح الجمهوري للرئاسة ماكين، عسى أن تؤدي هذه الاتصالات المكثفة لتحقيق تغيير في بيئة المفاوضات بدون أن تصاب الإدارة بمزيد من الحرج والفشل، أو تضطر لما تعجز عن القيام به واقعياً وهو ممارسة الضغط على حليفتها. في هذا الإطار أيضاً تكثفت زيارات المسؤولين الأوروبيين والدوليين، فيما يبدو أنه بتشجيع من واشنطن، كان أبرزهم المستشارة الألمانية ميركل، التي جرى تكريمها بإصدار تشريع يسمح لها بالحديث من على منصة الكنيست، لكونها أول زعيم أو مسؤول ألماني جاء بغرض معلن وهو الاعتذار والتكفير عن دور ألمانيا في محرقة اليهود. وبالرغم من أن إسرائيل لم تتوقف عن ابتزاز ألمانيا التي دفعت لها ما يزيد على سبعين مليار دولار تحت عنوان تعويضات، إلا أن هذا الكرم الزائد من قبل المستشارة الألمانية والذي بلغ حد الإعلان عن أن أي تهديد لإسرائيل هو تهديد لبلادها، هذا الكرم الزائد يستهدف ربما إقناع القيادة الإسرائيلية بتعديل موقفها من المفاوضات. على كل حال، يصبح الأمر أكثر حرجاً بالنسبة للإدارة الأميركية، حين يأتي موعد زيارة الرئيس بوش لإسرائيل في مناسبة الذكرى الستين لتأسيسها، بدون أن تكون الدبلوماسية الأميركية قد حققت شيئاً مقابل كل هذا السخاء، وتلك المرونة. في وقت سابق وتحديداً يوم الحادي عشر من الجاري، كان المنسق الأمني الأميركي في الأراضي المحتلة كيت دايتون، قد قال أمام عدد من القناصل الأجانب: إن إسرائيل تتعمد إفشال السلطة، محذراً من خطر اندلاع انتفاضة أخرى، الأمر الذي دعا نائب رئيس الحكومة الإسرائيلية حاييم رامون لأن يحذِّر من أن عدم إقدام إسرائيل على تفكيك بؤر استيطانية من شأنه أن يضر بعلاقاتها مع الولايات المتحدة. ويبدو أن رامون الذي يستشعر خطر السياسة الإسرائيلية على العلاقات مع واشنطن، يريد أن يبحث عن عظمة، أو تضحية صغيرة بتفكيك نحو خمسة وعشرين بؤرة من أصل أكثر من مئة، لمنع تزايد التعارضات. في كل الأحوال، إن كانت الإدارة الأميركية تبحث عن خطوات شكلية قبل القمة العربية، فإن على الزعماء العرب أن يتخذوا موقفاً حازماً إزاء السلوك الإسرائيلي، بعد أن تراكم ما يكفي من المؤشرات الدالة والمؤكدة على فشل المفاوضات والعملية السياسية الجارية. وإذا كان الإسرائيليون لا يهتمون بما تصاب به إدارة بوش من فشل، فإن الأولى بالعرب أن يفعلوا ذلك خصوصاً وأن حاجة أميركا للعرب ليست أقل من حاجتها لإسرائيل.البيان الإماراتية