د. مشاري عبدالله النعيم

د. مشاري عبدالله النعيم

تثير التطورات الأخيرة في مدن الخليج العربي كثيرا من المخاوف كونها تطورات "خارج تاريخ العمارة" ويصعب ملاحقتها أو حتى فهم الأسباب التي وراءها. ولعل أكثر الأسئلة التي يمكن طرحها هنا هي: لماذا نحتاج إلى كل هذه المباني التي صارت تملأ سماء مدننا، فهل هي فعلا تعبر عن نمو اقتصادي حقيقي أم انها مجرد صور لقيم اجتماعية طبقية بدأت تدخل القاموس المديني في المنطقة. كل هذه الأسئلة كانت محور لقاء نقدي حول المدينة جمع كثيرا من نقاد العمارة في الكويت الأسبوع الفائت. لقد كان من الواضح أن هموم المدينة المتزايدة تعدت حوارات الشكل وإن كان البعض مازال يفكر في "الهوية" البصرية كقضية القضايا، على ان الأمر الذي حظي بقيمة كبيرة هي تلك العلاقة الواهية بين المباني المنفردة وبين المدينة كوسط مجتمعي واقتصادي، ويبدو أن هذه العلاقة سحبتنا جميعا لما اتفقنا على تسميته "عمارة الطمع"، فما يحدث حاليا في الكويت ودبي والمنامة والدمام والدوحة وكل المدن الخليجية تقريبا هي مجرد اطماع فردية لقلة تملك في المجتمع تريد ان تدفع المدينة إلى مجرد وسط استثماري و"خصخصتها" لخدمة مصالحهم الشخصية على حساب كل سكان المدينة الذين يريدون أن يعيشوا بسلام. المدينة وعمارتها هنا لم تعد المكان الذي يحقق مساحة مريحة للحياة فكل مايحدث هو فعل مقصود لخدمة اطماع من "يملك المدينة". العرض المصاحب لذلك اللقاء كان يضج بالابراج والمباني المرتفعة التي تصل إلى مئة طابق وستبنى كل هذه المشاريع في مدينة الكويت خلال خمسة اعوام تقريبا وهو ما يعني ان هذه المدينة سوف تتحول بشكل جذري خلال بضع سنوات ولا اعلم إن كان لسكان الكويت رأي في ذلك. تذكرت وأنا اتجول في المعرض ذلك الحوار حول الديموقراطية فقد كنت اعتقد أن الديموقراطية تؤدي إلى تطور المدينة إيجابيا بينما كان رأي البعض انه ليس بالضرورة ان تصنع مناخا مدينيا ايجابيا وتمادى البعض وأكد ان الديموقراطية لم تحقق ابدا عمارة أو مدينة متميزة، وقلت ان تجربة الديموقراطية في الكويت قديمة لكنها لم تمنع أن يحول بعض المستثمرين هذه المدينة إلى مجرد "وسط استثماري" إنه بيع بالجملة للمدينة وخصخصة رغم انف سكانها. في المحاضرة التي قدمتها في لقاء الكويت فتحت كل مدافعي على ثقافة "خصخصة المدينة" فقد اصبحت المدينة الخليجية مجرد فضاء عقاري فعندما تتحول الواجهات البحرية إلى سلسلة للمطاعم السريعة ويتوارى الناس في المدن داخل خلايا تعزلهم حضريا واجتماعيا فإننا بذلك لا نصنع مدنا بل فضاءات للتجارة. أذكر انني تحدثت في السابق عن المدينة على انها ظاهرة إنسانية تهدف إلى تحقيق الظاهرة الاجتماعية المتوازنة فإما نبني مدنا لنحيا فيها حياة مريحة أو نبني رأس المال، وهو ما جعلني أرى في عمارة الطمع أنانية مطلقة من قبل البعض الذي يملك ولا يحتاج أن يملك المزيد من المال فهؤلاء يفكرون في تكديس الأموال حتى على حساب المدينة وسكانها ولا يمنعهم من ذلك أحد. أما الأمر الغريب هو أن مسؤولي المدن الخليجية يرون هذا "النمو الغريب" للمدينة هو نوع من التطور واللحاق بالركب وقد أكد لي احدهم ذلك عندما قال "لماذا الكويت تبقى في مؤخرة الركب"، ولا الومه على هذا القول طالما أن منطق التجارة وسطحية الثقافة المدينية هي السائدة في هذه المنطقة التي حباها الله بخيرات كثيرة ولكن بفقر شديد في القيمة الحقيقية للتطور فهناك مشاكل في التعليم والصحة والصناعة اهم بكثير من صرف كل الاموال في مبان تخرب الحياة المدينية وتصيبنا بالغثيان نتيجة للتلوث البصري الذي تحدثه حتى اننا صرنا نشعر بأننا نعيش في مصانع.احدى الأفكار التي كنت مصرا على طرحها هي بناء المجتمع المديني وهي فكرة ارددها دائما في احاديثي لكن هذه المرة ربطتها بردة الفعل التي صرت اشاهدها حول المدينة فالأمر يبدأ بتصحيح الثقافة المدينية لا بتعديل المدينة نفسها وأذكر قبل سنوات انني انتقدت التخطيط المروري في مدينة الرياض وكان احد رجال الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض يصر على أن الرياض لا ينقصها الطرق بل "الثقافة المرورية" ولم اكن افهم ما يريد في ذلك الوقت وهو ما جعلني غير مقتنع بالفكرة لكني عدت مرة أخرى وصرت افكر أن الثقافة المدينية تعني بالضرورة فهم "إمكانات المدينة" والتعامل معها حسب ما تقدمه المدينة فليس كل مشكلة تعني أن نغير المدينة من الناحية العمرانية بل في كثير من الأحيان يكون المطلوب تغييرا اجتماعيا. وفي اعتقادي أن فكرة هيئة تطوير الرياض في بناء ثقافة مرورية جديدة للمدينة هي جزء من بناء المجتمع المديني لدى سكان الرياض دون الحاجة إلى بناء طرق جديدة لن تحل المشكلة المرورية. والحقيقة أن هذه الفكرة اثارها البعض في لقاء الكويت على انها مشكلة تعليمية عالمية مع الفرق طبعا بيننا وبين كثير من المجتمعات التي لايمكن أن يحدث فيها ما يحدث في مدننا في الوقت الحاضر، فمن كان يدعي أن الديموقراطية لم تصنع مدنا متميزة لم يعي ما يحدث عندنا فظاهرة التحول التي نعيشها لم تعشها المدن الأوروبية حتى في بداية الثورة الصناعية عندما انتقلت مدنهم نقلات حضرية احدثت كوارث اجتماعية غيرت تاريخ المدينة. وهو ما يجعلني أرى الحل الوحيد المتاح أمامنا هو ان محاربة "خصخصة المدينة" وإيقاف "عمارة الطمع" يبدأ ببناء الثقافة المدينية التي نفتقر لها بشدة في هذه المنطقة.nmashary@yahoo.com