عبد الوهاب أبو زيد

الكتـابة بلغة الآخـر

ظاهرة الكتاب الذين يلجؤون للكتابة بلغة أخرى غير لغتهم الأم ويحققون إنجازات ملفتة للأنظار ليست بالجديدة تماما. هناك الكثير من الأمثلة والأسماء التي يمكن إيرادها من ثقافات مختلفة ولغات متباينة ومن حقب زمنية مختلفة. يرد في ذهني الآن أسماء مثل جوزف كونراد البولندي الأصل الذي كتب باللغة الإنجليزية وفلاديمير نابوكوف الروسي الأصل الذي كتب باللغتين الروسية والإنجليزية والذي لم يبدأ في الكتابة باللغة الإنجليزية إلا في مرحلة متأخرة نسبيا من حياته. هنالك أيضا صمويل بيكيت، الكاتب الإيرلندي الذي فضل الكتابة باللغة الفرنسية بعد طول مراس في الكتابة بلغته الأم، الإنجليزية.من الكتاب المعاصرين لنا نذكر ميلان كونديرا الذي انتقل من الكتابة باللغة التشيكية إلى اللغة الفرنسية بعد رحيله إلى فرنسا واستقراره فيها. هناك أيضا الشاعر الروسي الأمريكي جوزف برودسكي الذي كتب الشعر باللغتين الروسية والإنجليزية. من الأسماء الأقرب لنا ولثقافتنا نذكر الشاعر والروائي سليم بركات الكردي الذي قال عنه محمود درويش أنه أفضل من كتب باللغة العربية خلال العشرين عاما الماضية. هنالك أيضا أمين معلوف، الروائي اللبناني، الذي فضل أن يكتب الرواية باللغة الفرنسية رغم تمكنه التام من اللغة العربية. لا يسعنا أن نغفل، على الصعيد المحلي، الروائي والشاعر أحمد أبو دهمان الذي كتب روايته الأولى والوحيدة حتى الآن باللغة الفرنسية رغم أنه كتب الشعر باللغة العربية ليحقق نجاحا منقطع النظير على صعيد ساحتنا المحلية على أقل تقدير.لا بد أن هناك أسماء أخرى كثيرة ولكن لنقتصر على هذه الأسماء لأن هدفنا الأساسي هو تناول هذه الظاهرة وطرح التساؤلات حولها وليس حصر الأسماء وإعداد القوائم. بعض هؤلاء ربما لم يختر بالدرجة الأولى أن يكتب بلغة أخرى غير لغته الأم وربما وجد نفسه مضطرا للكتابة بتلك اللغة لأن وعيه لم يتفتح إلا عليها أو ربما لأنه كان بعيدا ومعزولا عن بيئة لغته الأصلية لأسباب وظروف مختلفة لسنا بصدد التعرض لها. ولكن بعضهم الآخر اختار طوعا وبملء إرادته ومن دون أي نوع من الضغوط أن يلجأ للكتابة بلغة أخرى، فما السبب يا ترى؟ أو ما الأسباب إن كان هنالك أكثر من سبب أو دافع لذلك؟الأصل هو أن يكتب الكاتب بلغته الأم لأنه أكثر معرفة بها وأكثر التصاقا وقربا منها فهي اللغة التي يحياها ويفكر بها ويتنفسها. ينبغي أن نشير هنا إلى أن اللغة الأم ليست مرادفة بالضرورة للغة القومية للكاتب. فقد ينشأ كاتب ما في بيئة وفي محيط اجتماعي وتعليمي لا يتيح له سوى تعلم لغة أخرى غير لغة قومه الأصلية. وبالتالي تتحول تلك اللغة الأخرى الغريبة عنه كما هو مفترض إلى لغة أم قد لا يعرف سواها. هذا الصنف من الكتاب لا يعنينا هنا وهو خارج دائرة التساؤلات التي نطرحها. ما يعنينا هنا هي تلك الفئة من الكتاب الذين يتحولون إلى الكتابة بلغة أخرى غير لغتهم الأولى حصرا. هل يعمد أولئك الكتاب إلى ذلك للوصول إلى قاعدة أكبر ودائرة أوسع من القراء والمتلقين؟ هل الدافع وراء ذلك هو أن يثبتوا للآخرين من أصحاب اللغة التي يتبنون الكتابة بها أنهم قادرون على الكتابة والتميز بلغتهم بل وربما التفوق عليهم. لعل هذه الفرضية تصح لدى الأفراد المنتمين إلى جماعات وإثنيات مهمشة ومستلبة الحقوق وربما خاضعة للهيمنة والاستعمار من قبل قوى وقوميات أكثر قوة وأظهر سلطة فتكون الكتابة بلغة الآخر المهيمن في هذه الحالة نوعا من الانتقام وربما الغزو الثقافي المعاكس والانتصار الرمزي للذات ضد ذلك الآخر باعتبار أن اللغة دائما ما تكون أحد أوجه الهوية الأبرز التي تكون مدارا للتفاخر والزهو والاعتداد لدى أصحاب كل لغة. هل يرتبط الأمر بهامش الحرية الأوسع الذي يستشعره الكاتب حين يكتب بلغة غير لغته حيث يتخفف إلى حد كبير وربما يتخلص تماما من قيود المحرمات والمحظورات التي تفرضها عليه لغة قومه التي قد ترتبط بقيم وأعراف لا تتسامح مع التعبير الذي يذهب إلى المدى الأبعد في ممارسة حريته دون أن يحد من ذلك أو يقف في طريقه الكوابح والمعوقات والرقابة القسرية التي لا يتمكن الكاتب من مغالبتها حين يكتب بلغته الأصلية.قد لا يكون هناك سبيل إلى التيقن والجزم بالسبب الرئيسي والحقيقي وراء تلك الظاهرة وعلى الأرجح فإن الأسباب تتفاوت وتختلف من حالة إلى حالة أخرى ومن شخص إلى آخر بتفاوت واختلاف الظروف التي خضعوا أو اخضعوا لها وإن كنت ممن يميلون إلى رجحان كفة السبب الأخير فيما يرتبط بالكتاب العرب والمسلمين الذين يهاجرون طوعا إلى منفى لغة الآخر لأنهم يجدون فيه من الحرية ما يفوق بما لا يقاس ما يمكن أن يجدوه في وطن لغتهم الأم.