د. طرفة عبدالرحمن

قيود العقل..

إن من يعيش في وسط فوضوي أو مضطرب في الحياة، سيعتقد بمرور الوقت أن هذا هو النمط الطبيعي للحياة، وسيتماهى معه حتى يصبح شبيهه أو نسخته، كما أن أحكامه على الأحداث والأشخاص ستعكس هذه الزاوية، والأمثلة عديدة في هذا الجانب، منها مثلا، الأفراد التعساء يصعب عليهم تقبل فكرة وجود متع بالغة اللذة ومباهج يمكن صناعتها في الحياة، وحتى لو اقتنعوا بذلك -إلى حد ما- سيظنون أنها وقتية لا تمثل الأصل والوجه الحقيقي للواقع.. فأمثال هؤلاء لديهم أحكام مسبقة عن الحياة تؤثر في فهمهم وحكمهم على الأمور، بل وقدرتهم على التغيير وكسر الرتابة أو تجاوز الحزن، ذلك أنهم يفترضون فشل أي محاولة لذلك، لأنهم عاجزون عن الفهم، ومتأثرون بتفسيرات وأحكام مطبقة في عقولهم، ومن يعجز عن الفهم يعجز عن الشعور..عموما حديثي ليس عن هذه الفئة بالتحديد، بل عن الأحكام المسبقة المتأثرة بالمرجعيات النفسية والاجتماعية للإنسان.. فالمتأثرون بالأحكام المسبقة، هم على مذاهب أخلاقية وفكرية متنوعة، فعلى الصعيد الأخلاقي نجد أن المتدنين أخلاقيا، وسيئي الظن لديهم أحكام مسبقة تؤثر في تفسيرهم ورؤيتهم للأحداث والآخرين، وأحكامهم في الغالب تعكس حقيقتهم، وليس بالضرورة حقيقة الأمور.. ومثل هؤلاء يصعب إكسابهم طريقة الحكم الموضوعي أو التفكير المنطقي، لأن فطرتهم الأخلاقية تطغى على محاولتهم تعلم ذلك.. أما أصحاب الفطر السليمة، والتكوين النفسي السوي، من المتأثرين بالأحكام المسبقة في حياتهم -نتيجة البيئة الثقافية والاجتماعية والتربوية- فيمكن إكسابهم طريقة التفكير العقلاني والمنتظم، والحكم الموضوعي على الأحداث والأشخاص ومتغيرات الحياة..تستحق العقول البشرية، والحياة الإنسانية أن ترتقي لمستوى النظرة الموضوعية في فهم الحياة والناس والمتغيرات، فمثل هذا النمط من التفكير يساعدنا على التعامل بطريقة أكثر حكمة مع مشاكلنا أيا كان نوعها ومجالها، بل إنه سيجنبنا كثيرا من المشكلات والمنغصات والتعديات بحق الأفراد تجاه بعضهم، وذلك من خلال القدرة على تفهم الاختلاف، وإعطاء الحقوق واستيفائها أيضا بالقدر العادل.. إن الأحكام المسبقة تقيد العقل والتفكير الموسع في التعامل مع الحياة، ومن نتائجها العنصرية والشعور الوهمي بالأفضلية على الآخرين لاعتبارات وهمية لا علاقة لها بالأخلاق والتميز.. والتاريخ ومنابع المشكلات العالمية تشهد بأن أحد مآسي الإنسان ركونه لإطار فكري مسبق في حكمه وتعامله مع الآخر، أيا كان هذا الآخر، دولة، نظام، بشر، دين.. لذلك غلظ العلم من أهمية النزعة الموضوعية والاستقرائية في دراسة السلوك والظواهر الإنسانية، ونحن نؤملها بدرجة مقبولة في التعامل البشري، وهذا من منطلق أخلاقي وليس علميا.