د. فالح العجمي

ثقافة الأعداد في العربية وأبعادها

من كان قد اطلع على التراث العربي وما سبقه في منطقة الشرق الأدنى في أزمنة قديمة، وتابع سيرورة الثقافة الخاصة المتعلقة بالأعداد، سيندهش من ذلك العالم المترابط في دائرة فكرية تخدم الأوضاع الاجتماعية، والوسائل العلمية المتاحة آنذاك للتعبير عنها، وتكييف حالات الأفراد معها. ففي الثقافة السامية بصورة عامة هناك قيمة لتلك المنظومة الرياضية؛ ليس من طرف خدمتها للواقع المعيش للأفراد والمجتمعات المعنية في تلك المنطقة فحسب، بل في التعمق إلى صلب التفكير الأسطوري المتوارث هناك من أمم سابقة أو مجاورة، وفي تشريح العلاقات والطقوس الدينية والاجتماعية المهمة لدى كل مجتمع في تلك البيئات. ومن هنا نشأت في تلك المنطقة المعنية ثقافة ما أطلق عليه «حساب الجمل»، وهو ما تتوافق معه دلالات الرموز الكتابية على أعداد تقابلها بترتيب الأبجدية الثابت تقريباً في كل تلك اللغات السامية المنتمية إلى الفصيلة نفسها. وهذا الأمر ليس قليل الشأن أو الرمزية في ثقافة تعد النصوص المكتوبة شيئاً من التراث المبجل (إن لم يصل في جميع درجاته إلى التقديس)، مثلما أنه أصبح يستخدم في أمور الطب الشعبي والسحر والأدب والفنون، لكون الكتابة (ومعها الأعداد التي تحتويها) تنتمي إلى عالم خاص في تلك الثقافة الشعبية الشفوية. ولأن عالم الرياضيات لم يكن دقيقاً في ذلك الوقت، فإن أعداد الأشياء لم تكن ذات أهمية، إلا بقدر ما تعنيه في سياق اللغة المكتوبة (أو النص الذي يحمل المعنى، ويفي بالتعبير عن الأعداد). ومن ذلك التعبير بألفاظ ذات قيمة تقريبية، خاصة في أعداد الجيوش وفئاتها، أو الأمطار وكمياتها، أو الحيوانات المفترسة وأعدادها، فكل تلك التباينات العددية لها قيمة في الاستعداد لها أو الخوف منها أو الاستبشار بها. ومما يجدر ذكره أن الساميين، والعرب على وجه الخصوص، قد تخلوا عن «حساب الجمّل» (الربط بين قيمة الحروف النصية والعددية)، بعد أن استعاروا الأرقام من الشرق الآسيوي. فلم يعودوا يهتموا بترتيب حروف الأبجدية القديم المرتبط بالقيم العددية؛ وأصبحت العرب على سبيل المثال يرتبون حروف الألفبائية (ولم تعد الأبجدية) وفق ترتيب جديد، يبدأ بالألف ثم يورد الحروف المتشابهة في الرسم بجانب بعضها بعضاً. أما قيمة الأعداد، فقد بقيت في بعض رواسبها الثقافية والأسطورية القديمة، المرتبطة بتاريخهم أو تاريخ شعوب أخرى سبقتهم. ويكفينا أن نشير إلى بعض الأعداد، التي ارتبطت بقيم إيجابية أو سلبية نتيجة توارث قيمة تساوقية لها في الثقافة: منها «الثلاثة»، التي أضحت ذات ورود ثابت في ثقافة المنطقة السامية، وفي الغالب مرتبطة بقيمة إيجابية، مما جعلها تسبغ الاستحسان في تكرار الأشياء ثلاثاً، وإتاحة الفرص بنفس العدد، وتحديد أيام العتب بين الأصدقاء، وإعطاء الإحسان، وتكرار القول، وحتى في العدّ لبدء بعض المسابقات الرياضية، قبل انطلاق المتسابقين. وربما نافستها «السبعة» في بعض نواحي القداسة، وأعداد الشخصيات في بعض القصص الأسطورية، وفي بعض عناصر الكون، مثل طبقات الأرض والسماء. حتى إن بعض المعلومات الدالة على مكونات عجائبية في العالم قد ثبتتها هذه الثقافة عند هذا العدد (فيما يطلق عليه: عجائب الدنيا السبع). وربما اتصل بتلك الجاذبية لهذا العدد ما وصل إلينا عن القراءات السبع للمصحف الشريف، بالرغم من أن هناك قراءات أخرى قد تصل بها إلى عشر، لكن «السبعة» أكثر وجاهة.