د. فالح العجمي

الاندماج الثقافي وصناعة الخطاب «1»

تتعلق عملية الاندماج بين مكونات المجتمع الثقافية بواقع يتكرس في حالات واقع المجتمع وطموحه، ومحاولات السعي للتوفيق بينها. كما تكمن أهمية كبرى لإسهام الوعي بالثقافة (إيجابا أو سلبا) لإحلال النماذج التنموية المطلوبة أو المناسبة في حيز التنفيذ، وجعلها مدار الاهتمام لأفراد المجتمع. ومن ناحية أخرى تتحكم القدرات المتوفرة لدى النخب المهيمنة في جعل العلاقة بين أطراف الثقافة قائمة على معادلة معايير دقيقة تتناسب مع إدراج الضروري من الثقافة في كل مرحلة زمنية ملائمة، دون أن تطغى العوامل الثقافية على محركات التنمية، فتتحول هذه التخمة إلى سياسة تجور بها على العوامل الموضوعية السائدة في بقية مناطق العالم. عندئذ تصبح الثقافة معول هدم لعوامل التنمية، بل إنها في بعض المجتمعات تكون خطيرة جدا حتى على الوئام والتناغم بين شرائح المجتمع المختلفة. حيث تتضاءل مساحة الانفتاح على الأنساق الأخرى، وينحسر مجال التسامح مع المختلف من الثقافات، بل يصل أحيانا إلى حد التصادم بين المكونات الفكرية المتباينة داخل المجتمع نفسه. وفي إطار صنع الخطاب الثقافي وتحليله، نجد أن أعدادا كبيرة من منتجي الخطاب يسيرون - في الغالب - دون وعي، في خضم تشربهم لما يشيع في الثقافة، نحو الإحالة إلى مفهوم ينوب عن الآخر. فتصنع الثقافة غالبا من هذا التوظيف الخطابي توصيفا محددا، ومكرسا في الثقافة للأجيال اللاحقة، عن الذات وعن الآخر، سواء كان هذا الآخر ينتمي إلى ثقافة أخرى بعيدة أو مجاورة، أو كان مختلفا عن المنتج، لكنه في النسيج الاجتماعي ذاته. وعندما يُستبدل بالآخر (فردا أو نمطا فرديا أو مجتمعا بكامله أو مجتمعات غيرية برمتها) مفهوما، ويصبح هذا المفهوم بديلا للتعريف والإشارة إلى ذلك الآخر، فيكون عندئذ أمر إصلاح هذا المفهوم في الثقافة خلال العصور اللاحقة، عندما تتبدل الذات، التي ينوب عنها المفهوم، أمرا عسيرا بل مستحيلا إلا لدى بعض الأفراد الذين يعدلونه بقدراتهم الفردية. وفي هذا الشأن ربما نستحضر مقولة (إمبرتو إيكو) عند حديثه عن المشروع الثقافي العالمي المتعثر بشأن زيادة مساحة التسامح العرقي والقضاء على العنصرية في جميع أنحاء العالم قائلا، إن الأمر لا يتعلق بالمال، وإنما بالأفكار، فكيف يمكن للقائمين على المشروع، على سبيل المثال، شرح مفهوم العنصرية للصينيين، الذين اقتنعوا لمدة خمسة آلاف سنة، بأن بلادهم هي مركز العالم، وبالتالي يؤمنون بأن عرقهم متفوق على غيره. ومن هنا تبدو رؤية العالم ذات أهمية كبرى، ووسائل صناعة هذه الرؤية، وفي الواقع أنها ليست سوى الصور الذهنية، التي تؤسس لها اللغة في عقل الإنسان، وتهيئ لطبع مخيلته عن الأشياء والناس والأمم من حوله وعناصر الطبيعة، وكل ما يمكن أن يصل إليه تفكيره عن الماضي والحاضر والمستقبل. ومنذ اكتشاف الدراسات الإنسانية، أن اللغة هي التي تصنع العالم بأشكال متعددة، وبقوة دفع تختلف من مجتمع إلى آخر حسب الاستعداد الفطري أو المكتسب للانقياد وراء إغراء اللغة وبهرجة عوالمها، قامت بعض التيارات الأنثروبولوجية، بدءا من نظرية النسبية اللغوية بتأكيد مقولة أن الإنسان محكوم في طرق تفكيره، واختيار سلوكه بثقافته، وما تمليه عليه لغته الأولى. وذهب رائدا تلك النظرية (سابير وورف) إلى أبعد من ذلك، بأن المرء لا يستطيع أن يكتسب من التجارب سوى ما تسمح له به لغته.