د. ابراهيم العثيمين

محاربة الفساد والطريق إلى السعودية الرابعة

لن أقول هذا القرار تاريخي بكل ما تحمله الكلمة من معنى لان المرحلة كلها منذ تولى الملك سلمان مقاليد الحكم وظهور الأمير محمد بن سلمان على المشهد السياسي ونحن نشهد مرحلة جديدة بل دولة جديدة تحمل سمات القوة والديناميكية على كافة الاصعدة. كتبت في هذه الزاوية مقالا بعنوان (خطاب الملك سلمان وترسيخ دعائم الدولة المدنية) وهو الخطاب الذي ألقاه الملك سلمان في قصر اليمامة في مارس 2015م والذي كانت مضامين الخطاب تحمل رؤية الملك في إدارة شؤون الدولة خلال المرحلة المقبلة. من يرجع الى الخطاب يجد ان كل فقرة فيه تعمل على ترسيخ دعائم الدولة المدنية وتعزيز قيم المواطنة من خلال تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة بين كافة فئات المجتمع والقضاء على الفساد وترسيخ الامن وصولا إلى التنمية والرفاه. وبالتالي ما نراه الآن هو تطبيق عملي لهذه الرؤية الطموح للملك سلمان والتي ظهرت في شكلها النهائي في رؤية السعودية 2030 التي أعلن عنها الأمير محمد بن سلمان والتي هو عرابها الحقيقي. حملة مكافحة الفساد الحالية والتي تمثلت بالقرار الملكي الاخير بتشكيل لجنة عليا برئاسة ولي العهد لمكافحة الفساد، وأعطاها كافة الصلاحيات، هو لضمان تحقيق رؤية المملكة 2030. فرؤية 2030 بكافة عناصرها الطموح ومشاريعها الكبيرة من برنامج التحول الوطني وبرنامج تحقيق التوازن المالي وبرنامج صندوق الاستثمارات العامة، وغيرها لا يمكن تحقيقها ما لم تقترن بجهود حقيقية لمكافحة الفساد، وإلا فإن الكثير من هذه المشاريع سوف ينتهي به المطاف الى التأخُّر او التعثر بسبب إما فساد إداري او مالي. وفقا للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد (نزاهة) ان 44% من المشاريع الحكومية التي تابعتها «متعثرة» أو «متأخرة». وبالتالي فهذا القرار سوف يساهم في رفع كفاءة العمل وجودته وفق اعلى المواصفات والمعايير من خلال استثمار الموارد المتاحة خير استثمار بعيدا عن الهدر واستغلال المال العام. الامر الثاني ان اهم محاور رؤية 2030 هو تشجيع الاستثمارات الوطنية وتشجيع تدفق رؤوس الأموال الأجنبية نحو المملكة بشكل كبير وتحويل البيئة الاستثمارية السعودية إلى بيئة صحية جاذبة للاستثمار ومنافسة عالميا. وهذا لا يمكن له أن يتحقق دون إعادة النظر في آلية مكافحة الفساد، والتحقق من أنه لا يمثّل عائقا أمام الاستثمار الداخلي أو الخارجي. سام زيل (Sam Zell) أحد أقطاب العقارات الشهيرة في الولايات المتحدة عندما سأله تلفزيون «بلومبيرغ» عن القرار الاخير (قرار لجنة مكافحة الفساد) وعن مدى استعداده للاستثمار في السعودية اليوم أم قبل عملية مكافحة الفساد يوم الأحد؟ فأعلن «أنه اليوم مستعد أكثر من أي وقت مضى للاستثمار في المملكة العربية السعودية». بهذا القرار الحازم سوف نخلق ثقة عالية ويقينًا لدى المستثمرين المحليين والدوليين خاصة ان الدولة مقبلة على مشاريع كبرى مشروع نيوم ومشروع القدية ومشروع البحر الاحمر وشراكات مع شركات كبرى لها ثقلها ستستثمر في هذه المشاريع وفي مجالات اخرى في التقنية والصناعة العسكرية والبترول. وهذا يحتاج إلى بيئة استثمارية شفافة خالية من الفساد حتى تنجح مشاريعها. كذلك ان الكثير من قضايا الفساد مرتبط بجرائم غسل الأموال، والتي يمكن ان تهدد أمن، واستقرار الدولة، ونظامها المالي. ونعلم جيدا ان السعودية حريصة على مكافحة هذه الجريمة من خلال التعاون مع مختلف الأطراف والمنظمات الإقليمية والدولية على رأسها مجموعة العمل المالي (FATF) ومجموعة العمل المالي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (MENAFATF) ومجموعة إيجمونت لوحدات المعلومات والتحريات المالية (The Egmont Group of Financial Intelligence Units) الأمر الذي جعلها تتبوأ مركزا متقدما في هذا الشأن. وفي عام 2015 تمت الموافقة على منح السعودية مقعد مراقب في مجموعة (FATF) وهي الآن في صدد الاستعداد لثالث تقييم في يونيو 2018، والتي تسعى من خلاله للحصول على العضوية الدائمة في المجموعة.الامر الاخير السمعة الدولية للسعودية والتي تسعى رؤية 2030 الى تعزيزها دوليا الا انه بحسب مؤشر مدركات الفساد «Corruption Perception Index» (يعرف بمؤشر CPI) لعام 2016م، الذي تصدره منظمة الشفافية العالمية جاءت المملكة في المرتبة (62) عالميا من أصل (176) دولة، وهي مرتبة متأخرة جدا لا تعكس الوضع الطبيعي للمملكة ومكانتها ولا تليق بأكبر اقتصاد عربي. واخيرا ان هذا القرار يمثل نقلة نوعية في طرح الشفافية والمحاسبة وسوف يساهم بلا شك في ترسيخ وتعزيز المواطنة ودعائم الدولة المدنية وصولا إلى التنمية والرفاه.