د. سمية السليمان

البدايات في شرق آيسلندا

في شرق آيسلندا بدا لي بوضوح أن البداية دائما تكون من شخص واحد وأن جهود ذلك الشخص في التأثير والتغيير يمكن أن تكون عظيمة. شرق آيسلندا هي المنطقة الأقل نجاحا في تسويق ما تمتلكه من جمال طبيعي وتاريخ وثقافة. فبعدها عن العاصمة ريكيافيك والمنافسة القوية من المناطق المجاورة أفقدها المكان الذي تستحقه.إن الشرق هو الأقرب لأوروبا وتضاريسه تشكلها الخلجان العميقة التي استوطن الناس في نهايتها وبين الجبال. فهناك بلدة فاسكرودسفيوردور (Fáskrudsfjördur) التي استوطن بها المهاجرون الفرنسيون وبلدة أخرى للمهاجرين الدنماركيين وثالثة للمهاجرين من النرويجيين. جميعها ترجع لحقبة منتصف وأواخر القرن التاسع عشر وتتميز بتأثيرات جذور سكانها. اختارها أحدهم ليسكن بها حتى تجمع حوله أفراد مجتمعه الأصلي. البلدتان اللتان لفتتا انتباهي هما بلدة سيديزفيوردور (Seydisfjordur) وبلدة ستويدڤارفيوردور (Stödvarfjördur). فالأخيرة يوصى بزيارتها لسبب واحد فقط وهو أن السيدة بيترا سفيسدوتير فتحت منزلها كمتحف حيث تعرض الأحجار التي جمعتها طوال حياتها. عمل دؤوب استمر من شغفها بالأحجار وأكسبها والبلدة شهرة عالمية وتكريما على مستوى الدولة. أما سيديزفيوردور فسوف أركز عليها هنا. من اهتمامي بالعمارة والفن توجهت لسيديزفيوردور بحماس. فبعد التجول بين بيوتها الخشبية ولوحاتها الفنية على واجهات المباني توجهت لمركز الفن البصري لأتفاجأ ببيت من ثلاثة أدوار في أسفله قهوة ومكتبة. مدخل المركز كان في الدور الثاني وفور الدخول وجدت مكتبا صغيرا تحت الدرج تجلس عليه فتاة فسألتها عن قصة المركز ولم أتوقع الكثير حتى شرحت لي تاريخه وارتباطه بالفنان السويسري الأصل ديتير روت (Dieter Roth) حيث سكن فيها في ثمانينات القرن الماضي وكان له استوديو فني هناك. امتد تأثير فنه وكتاباته ليلهم أصدقاء له في إنشاء مركز للفنون البصرية يجذب سنويا ٢٠٠ طلب من فنانين حول العالم يودون أن يمضوا فيه بعض الوقت لإنتاج الفن ولا يقبل منهم إلا ٢٠-٣٠ فنانا سنويا ليسكنوا في الدور الأعلى للمركز في الاستوديو. لم أكن أتوقع مكانا متواضعا وصغيرا كهذا أن تكون له علاقات دولية وتعاون مع جهات مختلفة. فبلدة سيديزفيوردور من الأماكن التي يزدهر فيها الفن والتجارب وتستضيف سنويا مهرجانا للفن بأشكاله. بدأت بفنان واحد واستمر تأثيره. رغم صغر البلدة (عدد سكانها ٦٦٥) إلا أنها اشتهرت مؤخرا بأنها مكان يجتمع به الفنانون والموسيقيون وكل من يرتبط بمجالات الإبداع؛ نظرا لانفتاح المجتمع.ما بين البيوت الخشبية القديمة التي جلبها معهم المهاجرون النرويج في منتصف القرن التاسع عشر هناك لمسات فنية متوزعة. من أغرب ما رأيت كابينة هاتف مغلفة بالصدأ في وسط الطبيعة وبجانب شلال صغير لها رقم هاتف وليس بها هاتف. اتصلت على الرقم المعلن لأستمع إلى كود مورس ونبذة عن دخول البرقية إلى آيسلندا عبر البلدة.في الأمثلة من البلدات الآيسلندية بعض الصفات المشتركة. إن كان من الصعب تسطيح وتبسيط تاريخ مكان وأهميته بحدث أو شخص واحد إلا أننا نعلم أن بعض الأحداث تكون محورية في تحديد هوية المكان. أفراد ذوو شغف بدأوا بأنفسهم وألهموا من حولهم وتعدى تأثيرهم الدائرة الضيقة. تَرَكُوا بصمة في بلداتهم من خلال عمل أحبوه وركزوا عليه ومن إعجاب من حولهم نما وازدهر.