د. ابراهيم العثيمين

الشيخ محمد السبيعي.. معمور بحب الله والأرض

لا يبرح صوت العم محمد يتناهى إلى سمعي وهو «يهيجن» بصوت مرتفع تارة بأبيات (سلامتك يا شمعة البيت والحي - سلامتك لا باس يا أم العيالا) وتارة بأبيات (وأبو وليد اللي علومه يطربني حازم فاهم لضده ما يداني) وهو جالس على كرسيه الخشبي العتيق يتمايل برأسه يمنة ويسرة ومذياعه الصغير بالقرب منه، تقرع تلك الأبيات طبلة أذني بعد أن حفرت أخاديدها في مخيلتي، تشعرنِي برعشة عذراء حزينة تتسلل إلى داخلي، فعبقها عالقاً بين ثنايا ذاكرتي، ومذاقها يرطب قلبي. أعلم أن البوح عن الشيخ محمد توأم خوفي، لأنك تحتاج إلى كلمات تليق بعظمته مما تعجز أن تسطره الأقلام وأرقى مما تلدها الأفواه وأعمق مما تهتز بها أوتار الحناجر، فحسبك أن تجلس مع الشيخ محمد حتى تجد نفسك قريبا من عتبة ذاكرة ممتدة تعود بك إلى بدايات التأسيس، فالشيخ -رحمه الله- كان شاهدا تاريخيا على تأسيس المملكة، فقد صافح المؤسس وجالس أبناءه وسافر معهم وثقوا فيه وأثنوا عليه ثناءً عاطراً حتى قالوا «انت يا السبيعي ثقة وتعاملنا معك كثير»، وهو بدوره أحبهم ووثق فيهم فقال: آل السعود وغيرهم جعله أفداك - انظر يمين وخلف وانظر يسارا العدل فيهم والمكارم والادراك - حكام من حكام بعلم وجدارا• لقد أحب الشيخ الأرض فعمرها، ففي حوانيت مكة وبين أزقتها الضيقة وبيوتاتها؛ بدأ عاملا بسيطا ثم مصرفيا أسس هو وأخوه الشيخ عبدالله شركة للصرافة والتجارة، وتحولت بفضل الله فيما بعد إلى أحد أكبر الشركات في مجال الاستثمارات والعقارات، ولها دور بارز في تأسيس «بنك البلاد»، الذي يعتبر اليوم واحداً من أكبر البنوك السعودية. فالشيخ محمد يعتبر بحق أحد مؤسسي الصيرفة في السعودية ومساهم فعلي في نهضة القطاع المالي فيها. • كما أنه أحب الناس فكان أنفعهم للناس، فقد كان مدرسة للعمل الإنساني يتفقد الأرامل والأيتام والفقراء والمساكين، يجالسهم ويدنيهم إليه ويحادثهم ويسأل عنهم ويصلهم، يباشر كل هذا بنفسه. يقول في أحد حواراته الصحفية «حينما أرى ضعيفاً حقاً.. أكاد أبكي وأعطيه عن نفس راضية، وكلما زدت في العطاء ارتحت نفسياً». ثم أسس هو وشقيقه الشيخ عبدالله المؤسسة الخيرية لتكون واحدة من أكبر المؤسسات الوقفية تتكامل مع غيرها في دعم أعمال البر وبناء الفرد والمجتمع وتشكل منهجا لما يعرف بالعمل الخيري التنموي الذي يستديم نفعه.• وأحب الحياة فأحبته الحياة، فقد كان المرح وإشاعة السرور والبهجة في حياة القريبين منه جزءا لا يتجزأ من شخصيته، تجده يمازح الصغير والكبير يضحك معهم. من القصص الطريفة مع العم محمد التي لا انساها ما حييت يوم قدمت من كندا وذهبنا الى بيته للتقدم بالخطبة الرسمية من حفيدته أجلسني قريبا منه وأثنى عليّ وعلى عائلتي، وقال تجمعنا بالعثيمين وشائج حب وعلاقة طويلة، وبدأ يترحم على الشيخ محمد بن عثيمين -رحمة الله عليهم أجمعين-، وراح يعدد مناقبه وطبيعة علاقته به. ثم التفت إليّ وقال: عندي ملاحظة بسيطة عليك. انتابني شعور بالتوجس والخوف وأتتني الراجفة تتبعها الرادفة، فماذا عساه قد لاحظ. أرهفت سمعي مصغيا إلى ما سيتفوه به، استشعرت برودة جمدت أطرافي منتظرا لحظة ينطلق صوته مع أنفاسه، وبابتسامة عريضة بانت ثناياه، قال العم محمد: يا وليدي وزنك زايد وأنت شاب صغير، بدأت أتنفس الصعداء قلت لنفسي: هونها الله تاركا اياه يسدي إليّ نصائحه ويعدد مخاطر السمنة، وعند نهاية كل جملة أهز رأسي قائلا: ابشر يا عم. كنت صادقا بوعودي له فمنذ خرجت من عنده، بدأت برنامجا غذائيا قاسيا انتصرت به أخيرا على وزني الزائد. • وأحب الله، فنور الله روحه بمشكاة اليقين لينتصب في محرابه خاشعا يتلوه العشق فلا تسمع إلا تمتمة شفتيه بعد أن ارتخت يداه وعانقت الأرض طويلا حتى طوت جسده الطاهر وتدثرت بعضا من ثراه. لا معنى لرحيل العم محمد سوى أننا سنظل مسكونين بالألم والوجع وكلاهما ستستحيل بقلوبنا حزنا بفعل ذكرى ستظل تعاند بحضورها دون أن تراعي فينا حرمة غياب العم محمد، لكننا كلما استقرت لحظات الحزن في قلوبنا وترجمتها أعين عارية سنطفق نخسف من ورق أرواحنا، التي أضاءت بقبس من نوره ما تواري به سوءتها.