د. محمد حامد الغامدي

مؤشرات لا نجيد قراءتها

ما زلت راكبا صهوة جواد سفري لمنطقة الباحة لأعيش حالة صراع، نحن جيل من أبنائها، كتب الله علينا معاناة حياة التغيير المتسارع، نحن جيل نرى تهدم ما كنّا نعيش، ثم نقول هذا تراث، متى كانت نتائج الهجر والإهمال تراثا؟! نعيش المعاناة في قوالب الغباء، أن تغيب عن أشياء تعرفها، أن تبتعد عن أشياء عشتها، ثم تعود إليها بلهفة، فتجدها في وضع غير الذي تعرف وتأمل، ماذا يعني هذا؟! إذا حلّت سحابة التغيير وأمطرت، فستأتي الثمار، لكن متى تكون الثمار سلبية؟!■■ جدار الصد الأول لمواجهة التغيير السلبي، يكمن في محتوى الفكر الذي نملك، ويشكل أيضا أبعاد مساحات العقل، فهل هي واسعة لتستوعب؟! نحارب التغيير ونتمناه، نحبه ونكرهه، نخافه ونبحث عنه، هل هذا صراع التغيير؟! كيف يتولد؟! التغيير حركة كسب وفقد، أشبه بمكاسب الغياب والعودة، هو السفر في ظل طقوسه، وقد نسافر ونحن في مواقعنا ثابتين، وللسفر فوائد حددها السابقون، وأضاف عليها اللاحقون، حتى وصلت لكاتبكم.■■ سنين عمري خارج منطقة الباحة أكثر، لكن معالم جذوري تشكلت في مصانع بيئة الباحة، ونتنقل بها في نفوسنا من مكان لآخر، ثلاث سنوات متواصلة عشتها في قريتي أثناء الثانوية، كانت كافية لاستحلاب كل مشاهد الماضي، بثقافته وتاريخه، بجميع خطوط مساراته واتجاهاته، شكلت قوالب الذاكرة ورسختها، ثم كانت الهجرة عام (1972)، برفقة المهاجرين من جيلي، رجعت إليها بعد ربع قرن، فوجدت كل ما كنت أعرف أشبه بـ(صُبرة) مخلّفات فاقدة الوعي، تنتظر من ينقذ ملامحها.■■ ماذا جرى ويجري في بلاد منطقة الباحة؟! بل ماذا يجري في شريط البلاد المطيرة من جبال السراة والحجاز؟! هل تعلمون بأنه شريط بعرض يقل عن ثلاثة من الكيلومترات، استوطنه أهلها عبر التاريخ؟! هل تعلمون بأنه شريط نمو شجر العرعر؟ الشاهد على الماضي والحاضر، هل تعلمون أن عمره يزيد عن ثلاثة قرون، وبعضها يزيد عن العشرة؟! هاتوا شيئا آخر استمرت حياته في هذا الشريط المطير بجانب إنسانها طوال هذه القرون.■■ شريط ثمين يحتل قمم الجبال الجنوبية الغربية، ويمتد من الطائف لأقصى نقطة جنوبية، استوطنته القرى التاريخية بأهلها، في تجاور وتعاون وتعايش مع البيئة، استثمروا مدره النادر والثمين، وحصدوا نعمة ماء مطره، موقعه الاستراتيجي يؤكد أهميته، كالوعاء يحمل استمرار الحياة الخضراء من آلاف السنين، شريط لم تتوسع مساحته العمرانية إلى أن جاء زمن التغيير المتسارع، كأن الناس كانوا في ثبات لا يزيدون ولا ينقصون، وتلك حكاية أخرى من فصول الحياة الصامتة المخفية.■■ ماذا يجري في مناطق هذا الشريط الاستراتيجي الممطر؟! لأتحدث عن منطقة الباحة كنموذج، كيف جاءت طفرة البشر؟! طفرة أشبه بلفحة هبوب ساخنة، على وجه طري وناعم، لفحة أحرقت الوجه الجميل للبيئة، وتوسع الضرر بانتشار قوالب عمرانية عشوائية، تتربع على ما تبقى من مدرها النادر، مدر تجرفه مياه الأمطار الضائعة والمهدرة، هل كل شيء في هذا الشريط إلى الضياع؟!■■ من يكبح الجماح؟ ضياع (المدر) الوعاء الحامل لمياه المطر، يعجل بالقضاء على وظيفة شريط المطر ودوره، ضاعت حكمته البيئية، منازل صخرية ولدنا بداخلها تهدمت، مهارات ساعدت على بقائنا تلاشت، زراعات نادرة بكل مكوناتها ومحتواها ونظمها انقرضت، وامتد العبث ليطال شجره ومدره، هذا الشريط هو الأهم للبلاد والعباد. ■■ شريط المطر في منطقة الباحة يحتضر، مؤشرات تنذر بالخطر، هكذا قرأت الوضع المضيء ليلا بنور الكهرباء، وفي النهار نتجاوز المعقول والمنطق، بالتعدي على البيئة واستباحة كرامتها، توسعات عشوائية لا تراعي فلسفة البيئة في الوجود، فلسفة الجمال وقوة العطاء، مؤشرات لا نجيد قراءتها، لم أفقد الإحساس بالتنمية، لكن أعيش المستقبل بكل كارثته البيئية.