خليل الفزيع

الاستثمار الثقافي وجه حضاري

ما زالت الأنشطة الثقافية تدور في فلك الأنماط الاستهلاكية، التي تخيم بظلالها على المجتمع، وتكاد تحجب الرؤية عن المتلقي، لينظر بشيء من عدم الوضوح إلى كثير من الأمور، ومهما كانت الجهود المبذولة في هذا المجال، فإنها تظل مرهونة بالظروف وتقلباتها فيما يتعلق بالتمويل لضمان الاستمرار في العطاء والإنتاج، وهذا شأن كل مشروع ثقافي يفقد التمويل الدائم سواء من مؤسسات الدولة أو من أفراد المجتمع المعنيين بالشأن الثقافي. وهنا يأتي دور الاستثمار في المجال الثقافي لضمان استمرار العمل الثقافي، ليس فقط على مستوى النصوص الإبداعية، بل وأيضا على مستوى العمل الشامل ومنه طباعة الكتب والإنتاج المسرحي والسينمائي، وبقية الفنون السمعية والبصرية، التي أصبحت فعالياتها منتشرة على امتداد رقعة الوطن، رغم عدم توفر البنية الأساسية لممارسة هذه الفعاليات. والاستثمار الثقافي من خلال مؤسسات استثمارية متخصصة، سيوفر بنية أساسية صلبة، يمكنها أن توفر مناخا وظروفا زمانية ومكانية تستوعب كل الأنشطة الثقافية، وتضمن لها النمو والاستمرار، ومهما بلغ حجم الأنشطة الثقافية ، فإنها ستظل مرتبطة ليس بالاعتمادات المالية فقط، بل بوعي المسئول ومدى اهتمامه بالثقافة وقناعاته بدورها في صياغة الوعي العام في المجتمع، وتأصيل قيم الخير والجمال بين أفراده، ولا يغيب عن الأذهان أن الاستثمار الثقافي سيدور في فلك الأنظمة القائمة، ووفق مقاييس تراعي ظروف المجتمع وتحترم قيم أفراده، لكنها في النهاية مؤسسات استثمارية تعتمد على رأس المال، وهو الحكم في حسم إشكاليات بوادر الرفض لبعض الأعمال الثقافية، خاصة مع وجود بعض الفئات التي تتحفظ على بعض هذه الأعمال كالمسرح والسينما، وهو تحفظ لن يدوم طويلا، واستقراء الماضي يعلمنا أن كثيرا من المبادرات الثقافية قد قوبلت في بدايتها بالرفض، وقد أصبحت تقابل بالرضا التام. ولسنا بعيدين عن ذلك الزمن الذي كان فيه ركوب الدراجة الهوائية محظورا، لأنها «حصان ابليس» ثم أصبح هذا الموقف موضوعا للسخرية و«التنكيت» عندما تولى الزمن إزالته من عقول الناس. وقد بدأت ملامح الاستثمار الثقافي في التشكل والبروز مع بداية عمل هيئة الترفيه، وفي يقيني أن المسئولين في هذه الهيئة يدركون أن الثقافة لا تقتصر على المتعة الآنية من خلال الحفلات الغنائية، بل أن لها مجالاتها الأخرى الأكثر أهمية، وليس من مهمة الهيئة ولا وزارة الثقافة القيام بهذه المهمات بشكل مباشر، بل تكتفي بالإشراف عليها بعد أن تعمل على قيام مؤسسات استثمارية تتولى هذه المهمة، وهذا هو الحال بالنسبة لكثير من الدول التي تعتبر أن الاستثمار الثقافي وجه حضاري مشرق.