د. فالح العجمي

الروماني العجيب وقطار فيينا «1»

موضوعنا اليوم مختلف عما اعتاده القراء مني من نقد واستقصاء، ربما يكون خفيفاً على القارئ المتصفح والمستعجل والحزين، ليضحكوا جميعاً، أو يتأملوا قليلاً. كنت في الأيام القليلة الماضية متجهاً بالقطار (Intercity) من مدينة فرانكفورت إلى فيينا، ونتيجة لتغيير في مسار القطارات الألمانية بسبب تحويلات إنشائية تغيرت الأرصفة التي تنطلق منها بعض القطارات. وكان منها قطارنا المتجه إلى فيينا، وقبل أن أركب القطار نظرت إلى الرقم واللوحة التي تحمل أيضاً اسم المدينة المتجه إليها وهي فيينا، فصعدت إلى القطار مطمئناً، ووضعت حقائبي، وجلست مستسلماً لبعض القراءات، التي أمني النفس بها مع طول البقاء في القطار. وما أن مضت ساعات على الانطلاق، حتى نزل كل من كانوا معي في الكابينة، التي تتسع لستة أشخاص، في المدن التي يقصدونها. وفي لحظة دخل شخص غريب في سلوكه ومظهره وفي طريقة سفره، بل وحتى كلامه وجرأته، فبادرني بعد أن جلس على أحد المقاعد في الكابينة، بسؤالي عن وجهتي، وأظهر ما في جيبه من أوراق، بعضها جدول للرحلات وبعضها تذاكر مختلفة. ولم يكن يتكلم لا الإنجليزية ولا الألمانية، بل بلغته الرومانية مع الإشارات اليدوية وتسمية بعض المدن التي كان فيها أو التي يقصدها. ومع كل تساؤلاته غير المفهومة وعرضه غير المجدي، كان يصف حالته في بلده، وفي سفره هذا بكلمات يضعها بين عبارات رومانية: بدءاً من العبارة الشهيرة للمتسولين (No Money) وليس انتهاء بكلمات يصف فيها طفولته بأنه يتيم (orphan)، وأن أمه تركته وهو ابن خمس سنوات (طبعاً فهمت هذا الأمر من الإشارات وإدراج بعض الكلمات الإنجليزية أو اللاتينية الأصل أو الألمانية ضمن السياق). لكنه الآن رجل قوي البنية وتنتظره في رومانيا - حسب كلامه أسرة تتكون من زوجة وخمسة أطفال - ولا أدري لماذا ذهب يتسكع بين دول أوروبا الغربية المكلفة في كل شيء، وترك أسرته هناك! الطريف أنه لم يكن يحمل أي حقيبة لا كبيرة ولا صغيرة، كل ما يحمله كان تلك الأوراق، التي تمثل التذاكر وجدول الرحلات بالقطار، وحسب كلامه المخلوط بالإشارة أنه كان ينام في الشوارع في كل هذه المدن التي مر بها في النمسا وألمانيا وهولندا! لكن حتى النوم في الشارع يحتاج شيئاً يفترشه أو يتغطى به، ويحتاج إلى طعام، وإلى تغيير ملابس خلال هذه الأيام التي تستغرقها الرحلة، خاصة أن ملابسه كانت تبدو في حالة معقولة، وكذلك بشرته ووجهه! حيّرني بهذه المتناقضات، فوضعت عيني على الكتاب الذي أضعه أمامي، متغافلاً عن شرحه، وإعاداته لكل تلك الكلمات المفتاحية: أسماء المدن، وعبارات التسول المعتادة، وكان وهو يتحدث عن أمه التي تركته وهو ابن خمس سنوات، يضع يديه على عينيه، مستدراً للدموع، كما هي حال من تعرفونهم من بعض من يدعي التأثر بما يعظ به. في هذه الأثناء أعلن المتحدث ببيانات الرحلة في القطار أنه قد وصل إلى محطته الأخيرة، وهي مدينة ميونيخ، عندها اكتشفت أن القطار خطأ، فأخذت على عجل حقائبي ونزلت منه، وسألت أحد المسؤولين على الرصيف، فدلني على أن قطاراً سيتجه إلى فيينا سيكون على رصيف ليس بعيداً عني. وفي الجزء الثاني من المقالة، سيكون الحديث الأكثر طرافة عن صاحبنا الروماني، الذي يشبه شخصيات المقامات الساسانية!