محمد الفريح

وأقرب رحما

ترددت كثيرًا قبل كتابة هذه الأسطر، لأنني لست فقيهًا ولا محدثًا ولا مفسرًا، ولا أدعي هذا الشرف، ولكنها فكرة ألحت عليَّ مدة من الزمن، فآليت على نفسي كتابتها، ربما يستفيد من حكمتها أحدنا، ويعيد ترتيب حساباته، وطريقة تفكيره في التعاطي مع الأحداث والأقدار، التي تمر به كل حين، وذلك عندما أمعنت النظر في ما ختم الله سبحانه وتعالى آية كريمة من آيات كتابه العزيز بـ (الرحمة القريبة) جدًّا، متى كان ذلك؟ كان بعد مصيبة ومشهد دامٍ، يحبس الأنفاس! تمثل ذلك بأكبر جريمة، أثمت فيها يد إنسان يومًا، (حسب ما نظن)، ألا وهي ذبح ابن أمام ناظري أمه، عمل استعصى إدراكه وفهم أبعاده على كليم الله ونبيه موسى عليه السلام، لينطلق بعدها بتعنيف الخضر وتأنبيه ولومه بما تحمله كل نفس بشرية سوية لهذا الفعل الآثم! «لقد جئت شيئاً نكرا» (الكهف 74)، لينجلي الأمر بعدها بآيات قليلة وقريبة جدًّا: «فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما» (الكهف 81).قد يستعصي علينا فهم كثير من الأحداث، التي تقع حولنا، سواء لنا أو لغيرنا، دون أن نجد لها تفسيرًا أو تحليلاً آنيًا، يهدئ ثائرة النفس حولها، ولكن سرعان ما تجد حكمة الله ورحمته ورأفته داخلة في طيات هذه الأحداث بكل أبعادها وتفاصيلها.ماذا وجدت هاجر بعدما تركت في وادٍ غير ذي زرع؟وماذا أدركت أم موسى بعدما ضاقت حيلتها بفقد ابنها، وفرغ قلبها من كل شيء إلا منه؟وماذا حدث لنبي الله يوسف بعد كل التآمر الذي حدث له؟وماذا حدث لنبي الله يعقوب بعد كل ما جرى له من الألم والمعاناة بفقد أبنائه واحدًا تلو الآخر.وماذا حدث لخير البشر صلى الله عليه وسلم، بعدما دميت عقباه الشريفتان؟قصص وأحداث وعبر لا تنتهي في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، تزخر بها أمهات كتب التراث، تروي لنا حسن العاقبة والمآل بعد عواصف الألم والمعاناة، وشدة الحياة، لتأتي بعد ذلك نفحات الرحمة الإلهية التي لا تنتهي، في دروس عظيمة، تلهمنا وتعلمنا، كيف تكون الرحمة قريبة من العبد أقرب إليه من حبل الوريد، وتأتي إليه في أحلك مراحل معاناته ألماً وأشدها بأساً. كم من نعمة ولدت من رحم المعاناة.وكم من نعيم جاء من زفرة الألم.وكم من هبات وفضائل وجدت في منع أو حرمان.وكم من عطاءات ومنح تتأتى للعبد بعد أن يظن أنه قد هلك بما حل به وأصابه.أعد ترتيب أوراقك وحساباتك، وارجع بالذاكرة قليلاً، لتدرك حجم العطايا، التي أجزلت لك بعد كل ابتلاء، ستدهش حقًّا من رحمة أرحم الراحمين ولطفه وعطائه. وستقف حائرًا عن أيها ستحمده عليها.أذكر وأنا أكتب هذه الأسطر قول الحق تبارك وتعالى: «قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن بل هم عن ذكر ربهم معرضون» (42 الأنبياء).كما أتذكر عن محمد بن مسلم أنه قال: بلغني أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أوصني ولا تكثر عليَّ. قال: «لا تتهم الله في شيء قضاه لك». (جامع العلوم والحكم، ص 194).