د. خالد الحليبي

على بوابة التقاعد.. أنتظركم

الحياة مراحل، ولكل مرحلة مذاقها الخاص، وحين نستقبل أية مرحلة بروح وجلة، متوجسة، فسنكون كمن قال فيه أبو الطيب: ومن يك ذا فم مر مريض... يجد به مرا الماء الزلالا الذين يتخوفون من مرحلة المراهقة مع أبنائهم وبناتهم يفقدون أجمل مراحل التربية وأنضرها؛ حيث الروح الشبابية، والصحبة المرحة، وتحقيق النجاحات المتعاقبة، والبناء القيمي والعلمي، وتفتح أكمام الجمال بكل نواحيه. وبعض الذين يتخوفون من مرحلة الشيخوخة، يتوقفون على بوابتها مرتهبين، يظنون أنه بمجرد أن يأتي اليوم الأول بعد التقاعد فإن الأمراض والأحزان وقلة التقدير من الآخرين كلها ستكون في استقبالهم، وليس هذا صحيحا ألبتة إلا في حالة واحدة، أن يتوهمها المتقاعد، ثم يستشعرها، ثم يسجن شخصيته بين قضبانها، فهناك ليس غريبا أن يموت قاعدا كما يصر كثيرون على التوقف عند التاء عند قراءتهم كلمة: (متقاعد). استمتع بمرحلة الشيخوخة تماما كما استمتعت بالمراحل السابقة بلا استثناء، فأنت الإنسان المقدر، تنحني على رأسك الرؤوس مقبلة مكرمة، وأنت المقدم في كل محفل، وأنت الخبير في مجالك، وأنت.. وأنت. لا نزال نتذكر أيام الطفولة حتى نردد بيت الصويغ: ليتني كنت طفلا، بين أترابي ألهو، وفيها ما فيها من الضعف والوهن، وربما ضحكنا قبل أن نستعيد أيام الشباب الجميلة، حين كنا نثب وثبا إلى طموحاتنا وآمالنا؛ حتى نصرخ مع الشاعر: ألا ليت الشباب يعود يوما!!، وفيها ما فيها من رهق وقلق، وولجنا مرحلة الكهولة بعد الأربعين، فصُدمنا بها، وبدأنا نسأل أنفسنا ونراجعها: كيف علاقتك بربك؟ وماذا صنعت لنفسك ولأهلك ولوطنك وأمتك؟ وماذا أنجزت لآخرتك؟ وهل أنت راض عن العمر المتصرم؟ وكيف ستستقبل بقية سنوات عمرك؟ وهل ستترك بعدك ما يجعلك كما قال الشاعر: وكن رجلا إذا أتوا بعده... يقولون مرَّ وهذا الأثر. لكن الأمر سيكون أكثر حساسية حين يجد المرء منا نفسه على أبواب الستين، وخيال التقاعد يتراءى له شبحا يهدده بالانزواء بعد الحضور القوي، وسلب السلطة الإدارية بعد التربع على قمتها في كثير من الأحوال، والفراغ السحيق بعد الامتلاء حتى الفيضان، والإحساس باضمحلال قيمة الحياة بالنسبة للآخرين بعد أن كانت تمثل الحياة لكثيرين منهم!! التقاعد نعمة.. التقاعد صدمة.. التقاعد كآبة.. التقاعد راحة بال وسعادة.. التقاعد فقدان لفرصة العمل التي بها أكون.. التقاعد ليس فرصة، بل فرصا من العمل والنشاط لا حدود لها.. كل هذا يمكن أن يكون. مهم جدا ـ أولا ـ ألا يكون التقاعد صدمة، وكيف يكون صدمة والموظف يعلم بأنه سوف يتقاعد بعد كذا سنة، وكذا شهر، وكذا يوم؟ الجواب يسير وخطير في الوقت نفسه: إنما يكون صدمة لانعدام التخطيط الذي اعتدناه في حياتنا، فنحن نعيش يومنا ولا نسأل عن مستقبلنا!! لذلك نتفاجأ بيوم العيد فنسارع للأسواق في ليلته، ونتفاجأ بافتتاح المدارس فنملأ القرطاسيات بضجيجنا بعد يوم فقط من العودة للمدارس، ونتفاجأ بما يحدث لنا في صحتنا؛ لأننا نحرص على الفحص الدوري لسياراتنا، لكن لا نحرص على الفحص الدوري لأجسادنا، وفي علاقاتنا مع أحبابنا تكون الصدمة ـ أحيانا ـ كوارث تنتهي بتفكك أسري، أو انحلال غير أخلاقي، أو جنوح لا مشرق له ولا مغرب!! التقاعد نعمة، وبُلغة خير ورشد، فكم فقدها من تقصمت أعمارهم قبل بلوغها، والتقاعد باب جديد من أبواب الحياة الأسعد، يعود فيها المتقاعد إلى نفسه فيزكيها، ويسعدها، ويستمع إلى نجواها، ويلبي احتياجاتها، بعد أن أشغله ركضه يمينا وشمالا عن الاهتمام بأقرب من يستحق العناية منه. التقاعد موضع من مواضع شكر النعم، بعد أن اكتمل كثير منها، استقرار نفسي بالزوجة والولد، واستقرار مالي، واستقرار سكني؛ وهو المتوقع من الإنسان الأريب الموفق، وأما إذا بلغ الستين وهو لا يملك استقرارا ماليا، ولا سكنا مُلكا يؤويه، فلا يضع اللائمة على ظهور الآخرين، ففي الغالب أنه لم يكن متوازنا بين الصرف والادخار، ولم يكن يسعى في دروب الحياة لفرص استثمارية غير الوظيفة التي تشغله في ثلث يومه فقط. في التقاعد فرصة للخروج من ضيق الوظيفة إلى سعة التطوع أو التجارة، حيث يختار الوقت الذي يعمل فيه، ونوع النشاط الذي يمارسه، ويجد لديه دافعا جديدا لم يكن يشعر بمثله من قبل، وبهذا تتجدد العزيمة، ويجد نفسَه في ميدان فسيح؛ أروقته أوسع بكثير من أروقة المؤسسة أو الدائرة التي كان يعمل فيها. يمكن للمتقاعد أن يستثمر اختصاصه أو مواهبه أو مهاراته أو علاقاته في مشروع يستحق أن يهديه بقية حياته، ويُقبل به على ربه، فإنما الأعمال بالخواتيم، وإن في العمل الخيري والتجارة فرصا بعدد نجوم السماء، وله أن يختار منها ما يُحسنه.