د. فالح العجمي

مسكينة هي المصطلحات المتضخمة

ربما يأخذ بعضنا عددًا كبيرًا من المصطلحات، التي يُظن أنها واضحة ومحددة الدلالة، ومسلّم باتفاق فهمها لدى المتحاورين؛ وتزداد يقينية ذلك الفهم كلما كانت تشير إلى عموميات في المجتمع، أو لدى البشر جميعا بصورة أشمل. لن أتناول المصطلحات المتخصصة في أي علم من العلوم، إذ إن ما يعنينا في هذه المقالة تلك التي يستخدمها الناس في أحاديثهم، والصحفيون في كتاباتهم أو مناقشاتهم، والسياسيون في خطبهم وتصريحاتهم. وفيها يحدث تفاوت كبير في الدلالات، وفي العناصر التي يقصدها كل متحدث، أو يفهمها كل سامع أو قارئ، ومع ذلك فإن اللغة تكاد تجعل كل تلك الاختلافات سياقية بحتة، مثلما أن المحللين يضعون المفردة الواردة لدى كل منهم في بوتقة واحدة. وما يجعلني أركز على أهمية تناول هذه الناحية التداولية المبهمة لدى عدد كبير من الناس، كونها ذات أهمية جوهرية في تعامل الناس بعضهم مع بعض، وفي بنائهم لعلاقاتهم المجتمعية، وتكوين أفكارهم التراكمية في المبادئ الأخلاقية وفلسفة الحياة. ودون التمحيص في قواعد اللعبة، ينطلي على بسطاء الناس ما يمكن أن يحويه الوهم بتسويق ما لا يمكن قبوله دون اضطراب في مفاهيم المصطلحات. ويمكننا أن نبدأ باستعراض بعض تلك المصطلحات الموهمة، ومنها على سبيل المثال: «الإنسانية». فهذا المصطلح يُستهلك كثيرًا في تسويق ما يراد وصفه بالإيجابية، وإدماج قيم الخير فيه، ليكون مقبولًا عند من يتلقى وصفه بتلك الصفة، التي أخذت طابع الشمولية، وأصبحت أحد مرادفات العمل الخيري والتطوعي لصالح البشر بوجه عام. فهل الإنسان أصلاً مصدر من مصادر الخير، حتى يكون ما ينسب إليه دليلًا على الاتجاه الإيجابي نحو الأعمال الخيّرة، أم إنه حيادي أو أقرب إلى نوازع الشر منه إلى الأولى؟ فربما تعفينا من الإجابة عن السؤالين بصورة مباشرة الإحصائية، التي تشير إلى أن البشر قد قتلوا من جنسهم في القرن الماضي بمفرده ما يقارب 102 مليون شخص في حروب عبثية، كانت الأهداف منها اقتصادية أو استعمارية توسعية. فإذا علمنا أن أكبر وباء حلّ بالمجتمعات البشرية لم يقض على أكثر من أربعة ملايين شخص، فإن هذا يدل على أن الإنسان بقراراته الإرادية يفتك بأخيه الإنسان أكثر مما تفتك به الأمراض. فهل ذلك يشير إلى أن هذا الكائن عنصر خير في الأساس؟ أذكر في هذا المجال مدرس اللغة الإنجليزية في إحدى المواد المقررة بكلية الآداب، أنه كان يطلب منا أن نعبر عن أنفسنا بانطلاق، وبطريقة تناسب طلاب هذه الكلية؛ أي عدم الانغلاق في الأمثلة المدرسية. فكان يسألنا أسئلة غريبة منها: ما أخطر شيء على سطح الأرض؟ وكانت إجاباتنا تتراوح بين: الحيوانات المفترسة كالأسد والنمر والفهد والدب القطبي، والزواحف الخطيرة - من وجهة نظرنا- كالتماسيح والثعابين التي تنفث السموم القاتلة. وبعد أن تنوعت إجاباتنا في إطار خارج المجموعة البشرية، حتى دون أن نعرّج على العصابات الإجرامية لدى البشر، أو مروجي المخدرات وغير ذلك مما يشكل خطرًا على الوئام والناس الآمنين؛ قال لنا: أخطر شيء في الكون هو الإنسان! وعندما لاحظ استغرابنا، بادرنا بالقول: هل شاهدتم أو عرفتم عن أي كائن حي يسعى إلى اجتثاث بني جنسه غير الإنسان؟ صحيح أن الممالك الحيوانية تتحارب فيما بينها من أجل البقاء، لكنها لا تقتل أبناء جنسها. فانظروا الآن إلى لبنان (وكان ذلك إبان الحرب الأهلية فيها)؛ كيف يقتل بعضهم بعضا، ويرهب كل أصحاب مذهب أو طائفة أصحاب المذاهب أو الطوائف الأخرى! إذن نحن أمام إشكال مفاهيمي، إن بقينا نضع مبدأ عامًا في إطار رمزية مثل هذا المصطلح. فإذا كانت أفعال الإنسان ليست راشدة، فكيف نصف كل ما يعجبنا في تعامل راقٍ، ورأفة بالآخرين، وإحساس بمعاناتهم، بأنه شيء إنساني؟ في حين أن أغلب البشر أفراداً أو جماعات ذوو نوايا غير حسنة إزاء أفراد أو مجتمعات أخرى. بالطبع اللغة لا تغير مفرداتها أو أدلجتها لأذهان مستخدميها بسهولة، لكن وعي المتأمل في محصلة التاريخ البشري، الذي لا يكاد يخرج من سلسلة حروب وكوارث، حتى يدخل في قائمة جديدة منها، ومع وسائل فتك بالنوع البشري أخطر من الوسائل السابقة. هل يكفي مثلاً نوبل- مخترع الديناميت- الذي أسهم اختراعه في زيادة مساحة التدمير البشري في الحروب (طبعاً بالإضافة إلى استخدامات مدنية لذلك الاختراع)، أن يوصي بإنشاء جائزة عالمية للسلام تكفيرًا عن ذنبه؟ الأصلح في ظني هو ابتكار لفظ محايد، مثل «رحيم» أو «عطوف» بدلاً من هذا المصطلح المزدوج!