د. خالد الحليبي

أعداء أنفسهم

أصبحت لديه عادة لحظية، كلما وردت إليه رسالة فيها غرابة، أو خبر جديد بادر بإرساله، يريد أن يسبق المجموعة المتحفزة للتفاعل مع كل مثير، وهو لا يدري - وأرجو أنه لا يدري وإلا فالمصيبة أعظم - أنه أصبح قناة مجانية لأعداء دينه ووطنه ومجتمعه، وبالتالي أصبح عدوا لنفسه، فقد يظن أن خبرا ما يقلل من قيمة قرار أُصدِر، أو مقال يطعن في مشروع وطني أُطلق، أو مقطع فيديو ينتقد ولاة أمره، أو نكتة تصمُ الشعب الذي ينتمي إليه، أو مادة تُصدَّر بفضيحة فلان وعلان، أنها مجرد آراء من حقِّ أصحابها أن يذكروها، أو تسلية بريئة يُضحك بها الأصدقاء والأقرباء، وهي في الحقيقة سوسة حمراء تنخر في جذعَ الأمن، ومعول هدم يفتُّ في كيان الوطن.تصور أن يُطلق مشروع ما، ومنذ بدايات انطلاقه تحفُّه الأصوات النشاز، بين مثبط، ومخوِّف، ومتشائم، كيف سيجد القاعدة التي تسنده، والأسوار التي تصونه، والطاقات التي ستدفع به إلى فُوهة الأرض، يشق اليبس باستشراف وطموح، متطلعا إلى الشمس المشرقة في سمائه.من قُدِّر له أن يطلع على ما تقوم به الوزارات اليوم من حراك يرتبط بمؤشرات ومنجزات، وما نشأ فيها من أقسام جديدة تخضع للحوكمة والشفافية والمتابعة الدقيقة، فسوف يتساقط كثير من الغمائم عن عينيه، ويتفاءل معي بمستقبل مضيء - بإذن الله تعالى - تتضاعف فيه الإنتاجية الفردية والجماعية، وتتعاضد فيه القطاعات الثلاثة بتوافق وتكامل. فلم تعد القطاعات الحكومية والخاصة والأهلية تعمل في جُزرٍ متباعدة، بل أصبحت قرية متناغمة، كلٌّ منها يشدُّ عضُد الآخر بما يتميز به من عناصر القوة، ومقومات النجاح، ومن هنا فإن الهبوط الاقتصادي الذي اكتنف العالم وأثّر في اقتصادنا المحلي يمكن أن تعوضه مهارات وثقافات جديدة، تكشف عن موارد جديدة من موارد النمو، لا تحتاج إلى شركات لتخرج زيته، ولا إلى مفاتيح سحرية لتفتح أبواب كنوزه. إنه الإنسان الذي تتضاعف دافعيته للعمل بحب ورغبة، فيتضاعف إنتاجه، ويزداد أمانة ونزاهة فيحفظ موارد بلاده، ويفقه سنن الله في كونه وأن الأيام دول، فيعلم أنها مرحلة تحتاج إلى بصيرة، وتحدٍّ يحتاج إلى قوة، وأزمة تحتاج إلى إدارة، ومبادرات تحتاج إلى توكل نقيّ على الله تعالى.دوام الحال من المحال، والنجاح لا يكون ذا قيمة إلا إذا كان له ثمن، والإنسان المبدع لا يحتفي بنجاح باهت بارد، يتحقق بأدنى مستويات البذل، ويقدم منتجا مكررا، وإنما يحتفي بما يتفاجأ به الكون من حوله، وتتقدم به البشرية.الأزمة هي التي تعرفنا على أنفسنا أكثر، وتكشف لنا الفجوات التي يجب أن تسد، والمجالات الأكثر أهمية لتنميتنا وتلبية احتياجاتنا، والموارد الجديدة التي لم نكن نشعر بأنها مهمة في حال التدفق والرخاء والفائض المالي، لذلك فإن من الطبيعي جدا أن تصقلنا الأزمة من جديد، وتضخ فينا روحا مقدامة جريئة، قد يستعصي على ذوي الهمم المتقاعسة، والنفوس الضعيفة أن يواكبوا انطلاقاتها.من المهم أن نوقف مشاركاتنا غير الواعية في بثِّ روح الوهن، والتركيز على الأخطاء، ونشر الوعي المقلوب الذي يُكتب بأقلام مأجورة، أو من خلال الثقوب السوداء المجهولة، التي تعزف على أوتار الاحتياجات الأساس، والحقوق الإنسانية، وهي لا تريد من ذلك شيئا، ولا تهدف إلى تحسين، ولا إلى تقدم، ولا إلى تحليل حقيقي ووضع حلول علمية مدروسة، وإنما تهدف إلى زعزعة القناعات، وزلزلة الأرض من تحت أقدامنا.الحرب النفسية أسوأ من الحرب النارية، فالأولى يصبح كثير من الغوغاء حطبا لها، يشعلونها لصالح غيرهم، ويحترقون بها، أما الأخرى فهي توحد الأيدي للدفاع عن الدين والعرض والوطن، ونعوذ بالله من الحربين.مثل هذا الوعي يجب أن يتخلص من لمز المشككين، وثعلبة الماكرين، وأن يصل نقيًّا إلى قلوب البنات والبنين، في المدارس والجامعات، بل وفي محاضنهم الآمنة في سربها في البيت.الأمن نعمة من حُرمها حُرم المذاق الهنيء بكافة النعم، لذلك فهو خطٌّ أحمر، لا يجوز المساس به، ولا قبول الاقتراب منه، ويجب أن نكون جميعا جندا من جنده، نحرسه بأرواحنا، ونفديه بأموالنا، ونقدمه على سائر طموحاتنا وتطلعاتنا.ومن تخلى عن مسؤوليته تجاه أمن بلاده ولو برسالة عبثية يتهاون في إرسالها، فهو عدوُّ نفسه، علم أم لم يعلم.