د. محمد حامد الغامدي

نظرة جديدة على ألم الزراعة

¿ ¿ الحديث عن المستقبل ينبئ بالقلق.. مستقبل الماء والزراعة.. أيضا البيئة بشكل عام.. تصرفات الحاضر لا تختلف عن تصرفات مضت.. التجاوزات تراوح مكانها.. أيضا بنفس المسرح.. بنفس النتائج.. استمرار النتائج السلبية للنشاط الزراعي تتعاظم.. تأثيراتها تتوالد.. تحميل البيئة فوق طاقتها تجاوز يخل بالتوازنات.. النتائج السلبية تفرض نفسها على الإنسان والبيئة.. نتائج تشكل عجين المستقبل ومعالمه وملامحه. ¿ ¿ التجاوزات ترتقي لمنصات الخطورة.. قد تكون التجاوزات وليدة غفلة، لكن استمرارها مكابرة.. لا يوجد أغبى من أن يتحدّى الإنسان البيئة.. الخارطة الزراعية خلال عقود خطط التنمية وقعت بفخ التحدّي.. الأخطاء والتجاوزات تُمارس على البيئة بكل مكوناتها.. لن أسهب في الحديث عن كل شيء.. هذا مستحيل.. البيئة تشعبات علم وعلوم.. التركيز سينصب على ثلاثة أخطاء لوزارة البيئة والمياه والزراعة: سوء توزيع الأرض الزراعية، إهمال المزارع، وتجاهل الإمكانيات البيئية. ¿ ¿ الخطأ الأول التاريخي للوزارة كان منح الأراضي الزراعية في المناطق الصحراوية (مناطق الصخور الرسوبية) بمساحات زراعية شاسعة.. مساحات تجاوزت قدرة المياه الجوفية على التحمّل.. كان ذلك بموجب نظام توزيع الأراضي البور.. هل كان النظام نتاج حماس؟! هل كان نتاج دراسة تجاهلت وضع البيئة الهش؟! بالتأكيد كان خارج حسابات خطط التنمية.. لم يكن نتاج استراتيجية وتخطيط.. نظام ساهم باستنزاف المياه الجوفية بشكل جائر في مناطق الصخور الرسوبية.. نظام تحدّى البيئة، فكانت عواقبه الفشل وستكون كذلك. ¿ ¿ الخطأ الثاني التاريخي للوزارة كان الاحجام عن منح الأرض الزراعية في المناطق المطيرة من الدرع العربي.. لم يكن بنفس زخم التوزيع في مناطق الصخور الرسوبية.. لكل خطأ نتائج سلبية مختلفة.. لكن محصلتهما واحدة على الأجيال القادمة.. في الخطأ الأول تم استنزاف المياه الجوفية الاستراتيجية.. في الخطأ الثاني لم يتم الانتفاع بمياه الأمطار استراتيجيا.. كان يمكن استثمارها لتحقيق زراعة مستدامة.. أيضا تحقيق أمن مائي مستدام.. توجهات تجاهلت وتحدت إمكانيات البيئة الهشة فتصحرت. ¿ ¿ الخطأ الثالث كان توزيع معظم الأراضي البور للمؤسسات والشركات الزراعية ورجال الأعمال وكبار الموظفين .. بقي المزارع الذي يمتهن الزراعة خارج تغطية اهتمام الوزارة المسئولة عنه.. حاول المزارعون التشبث بمهنتهم لكنهم فشلوا.. كنتيجة هجروها بشكل جماعي.. تصرف الوزارة هذا شكّل خطورة على مستقبل الزراعة.. المزارع الذي يمتهن الزراعة يظل ينتج حتى في أحلك الظروف قسوة.. البقية سينسحبون من الشأن الزراعي في حال انحسار أرباحهم.. سياسة أجهزت على اليد العاملة الزراعية المحلية.. تجاهلتها.. لم تأخذ بيدها نحو منزل أفضل، وتعليم أفضل، وحياة أفضل.. كنتيجة هجر المزارع السعودي الزراعة والأرض ورحل إلى المناطق الصناعية والحضرية. ¿ ¿ ماذا تقول الخارطة الزراعية؟! بداية سأتحدث عن أساس المشكلة.. بدأت وتوسعت خلال خطط التنمية الثانية والثالثة والرابعة (1975-1990).. هذه الفترة شكلت عجين العشوائية والاجتهاد والتجاوزات البيئية والتحدي.. ساد أيضا تجاهل توصيات خطط التنمية.. أذكر هذا من باب الدروس والعبر.. خلال تلك الفترة، كما ورد في المقال السابق، تم توزيع أكثر من (2.5) مليون هكتار.. كان نصيب المناطق المطيرة أقل من (2) بالمئة (40) ألف هكتار.. رقم يدل على عدم الاكتراث بأهمية هذه المناطق.. كانت الأكثر كثافة سكانية زراعية حتى عام (1970).. هناك أيضا منطقتا مكة المكرمة والمدينة المنورة.. حظيتا بالأقل.. (26) ألف هكتار، شكلت نسبتها أقل من (1.3) بالمئة. ¿ ¿ توزيع الأراضي البور زراعيا شكل نتائج القلق على المستقبل.. كان يجب أن ترسم خريطة البلد المائية ملامح مستقبله.. عليها كان يجب أن تسود السياسة الزراعية.. في ظل التجاوزات والتحدي أصبحت الخارطة المائية مشوهة.. طرقها تقود إلى العطش والفقر الزراعي.. حتى اليوم لم يتم تصحيح الخطأ لصالح الإنسان والبيئة.. هذا خطأ آخر يضاف لقائمة الأخطاء التي لم تتوقف. ¿ ¿ بدايات نتائج التجاوزات والاجتهادات والتحدي مظللة بوهج نجاح زائف.. أثبتت الأيام والسنون فشل تحدي البيئة.. لماذا المكابرة وعدم الاعتراف بالأخطاء.. إعلان مرحلة التصحيح ضرورة لصالح الأجيال القادمة.. مرحلة التصحيح أقرب إلى عمليات الكي بالنار، لكنها ضرورة ملحة.. الوضع الزراعي والبيئي بحاجة لتصحيح سريع. ¿ ¿ يظهر نجاح تحدي البيئة، والتجاوزات، والاجتهادات كالبرق، لكنه يختفي بسرعته.. النجاح المبني على الخراب لا مستقبل له.. إذا كان الأساس لا يتحمل فكل البناء سيهوي بفشل عظيم.. حسن إدارة البيئة والتعايش معها يحقق استدامة مواردها.. الجشع والطمع والأنانية أدوات لقتل البيئة.. في ظل استمرار المؤشرات أجيالنا القادمة ستواجه تهلكة عطش محققة.