د. خالد الحليبي

المنزل.. محضن الإبداع

---حين يتحول الجمال المنزلي إلى فلسفة في الحياة، وقيمة كبرى تبكي من أجلها الأم إن شُوهت، ويشقى من أجلها الأب، فليس أمام الأولاد سوى التشكل حسب هذا القالب الوضيء، وليس أمامهم سوى أن يعيشوه بكل تفاصيله في حياتهم الخاصة---يمثل البيت الفلك الذي يتحرك فيه كوكب الناشئ، والمؤثر الكبير في كل سلوكاته وانطلاقاته واستجاباته، والمنزل البناء هو الذي يضم بين أضلاعه مجموعة من المؤثرات الإيجابية، كوسائل الثقافة، ومجالس العلم، والجمال الموزع بين أرواح البشر الذين يعمرونه، ومكوناته المختلفة.فالمكتبة المنزلية كانت ولا تزال المثير الأكبر لغرس عادة القراءة والاطلاع في نفوس الأبناء والبنات، وقد سألتُ طلابي في الجامعة على مدى قرابة ثلاثين عاما، فلم أجد من أصبحت القراءة جزءا من كيانه وحياته، وتركت أثرا في نشوء إبداع ما في لسانه، إلا وأحد والديه لديه مكتبة، إلا نادرا جدا.كما أن وجود مجلس علمي في المنزل، أو في الأسرة الممتدة، له أثر بالغ في نشأة أبنائها على حب العلم والأدب والفن المبني على القيم، والتنافس فيه. إذ تتحول تلك الأهداف العليا إلى قيم عظمى، يسعى أبناؤها إلى تحصيلها، والفوز بها.وأما تذوق الجمال، فهو يخضع ـ كغيره من مكتسبات الحياة ـ إلى تدرب وممارسة، ولذلك «لا بد أن يجد الطفل الجمال في منزله منذ صغره، ويُعوَّد تذوقه، حتى يتكون فيه حبُّه والإقبال عليه، فالطفل إذا فتح عينيه على منزل وإن كان غالي الأثاث، ولكنه مبعثر في غير تنظيم، هنا وهناك، لثارت أعصابه، وتأثرت نفسه، وانصرف عن حب الجمال، حيث يصبح القبح عادة متأصلة في نفسه، وتمتزج بها روحه» [أنور السيد الشريف، التذوق الجمالي وتربيته عند الأطفال]، والعكس صحيح، وقد رأيت بيوتا لأسر متواضعة الدخل، ولكنها تُعنى بالجمال، فنشأ فيها عدد من أبنائها وبناتها المبدعين في مواهب فنية مختلفة، فإن الطفل الذي فطر على الجمال إذا عاش في أسرة تعنى بتنسيق مفردات الجمال من حوله في حديثها معه، أو فيما وفرته من أدوات وأثاث وعطور وحدائق، فإنه سينتعش للكلمة الحلوة، ويبحث عن الصورة الجميلة، وينمو ذوقه، ويرتفع مستوى معياره الذي يقيس به الجمال عموما في حياته.وتستوقفني بيئة عمر بن عبدالله بن أبي ربيعة الذي ولد لوالد كان تاجرا موسرا، من أكثر قومه مالا، كانت أمُّه (جدة الشاعر) هي أسماء بنت مُخَرِّبة وكانت عطَّارة تبيع العطر في المدينة، وأما أم الشاعر فهي (مجد) أم ولد سبيت من حضرموت أو من حمير، يقول صاحب الأغاني: «ومن هناك أتاه الغزل؛ يقال غزل يمانٍ، ودلٌّ حجازي». فقد كانت تدلِّـلُه، فكان يرفل في النعيم؛ يلبس الحلل والوشي، ويركب النجائب المخضوبة بالحناء عليها القطوع والديباج، ويسبل لمته؛ فجاء شعره ـ مثل حياته ـ رقيقا يعج بروائح البخور، ويفيض بأخبار مجالس النساء، في لفظ سهل وشدة أسر، يسكب روحه المرحة في بحور قصيرة، واختفى منه الأنين والنواح، وامتلأ بألوان الملاذ وأنواع المتع، ودل على نفس مُدِلّ، حتى كان صاحبَ مذهب خاص في الغزل هو ما سماه بعضهم: (الغزل المقلوب)؛ حيث يتغزل بنفسه، ويجعل النساء تبحث عنه؛ كل ذلك عائد إلى نشأته في بيئة مترفة، فرشت له حياته بالورد، وكسته بالنعيم، فما كان الإناء أن يفيض إلا بما ملئ به، ولهذه التربية الناعمة لا تجد نبض عصره في شعره، ولا ما أصداء ما يدور فيه من أحداث، نظرا لنوع التربية التي نشأ بها.الجمال هو الجمال، يستوي فيه جمال الطلعة، وجمال الطبيعة، وجمال الكلمة، وجمال اللوحة المكتملة من كل ذلك.وحين يتحول الجمال المنزلي إلى فلسفة في الحياة، وقيمة كبرى تبكي من أجلها الأم إن شُوهت، ويشقى من أجلها الأب، فليس أمام الأولاد سوى التشكل حسب هذا القالب الوضيء، وليس أمامهم سوى أن يعيشوه بكل تفاصيله في حياتهم الخاصة، وفيما ينتجونه.إن المنزل يمثل كيانا ذا قواعد وأسس تمثل محفزات وضوابط في الوقت نفسه للناشئ، وبقدر توفر الوسائل الداعمة فيه، وتفرغ الناشئ للانتفاع بها، تكون الثمرة، ولذلك فإن البيئات الفقيرة ـ غالبا ـ تشغل أولادها عن تحصيل روافد الأدب بما تلزمهم به من العمل، فتفقد ما يحيل بذور مواهبها إلى حدائق غناء، بل تورثها الضعة والشعور بالدونية، وبقدر كبير من الإحساس المتدني بتقدير الذات، ولذلك تموت فيها كثير من مواهب الأدب، إلا من تمرد على بيئته، وامتدت له أنامل مبدعة من هنا أو هناك، وأخذت بيده إلى حيث يستكمل أدوات إبداعه.المنزل بقدر شيوع الثقافة فيه، وبقدر توفر الأدوات المساعدة في تغذية الحس الإبداعي فيه، مع توفر العنصر الجمالي في مكوناته يكون أثره في التنشئة الابتكارية في كل نواحي الحياة.