أ. د. عبدالله العبدالقادر

صفاء البصيرة وتواصل القلوب في زمن الفتن

وسط الكم الهائل من الإحباطات التي تتوالى هذه الأيام علينا نحن العرب والمسلمين من مخرجات الفتن التي رتب لها منذ عقود متطاولة نرى ونسمع نتائجها في بلاد الهلال الخصيب فتلك حلب وهناك بغداد وفي الجوار صنعاء وفي الأفق ترامب ونفثاته نرى أنفسنا أحوج ما نكون لارتقاء جديد وسمو مبتكر نزكي بها أنفسنا ونقوي قلوبنا لنغدوا نافذين مؤثرين مطمئنين اطمئنان القلوب بذكر ربها ولعل ربط آلة البحث الحديثة لما نجريه هذه الأيام من بحوث عمق ما لدينا من إيمانيات بالخالق الأعظم والرنين الكوني الرهيب الذي تحدثه آيات الذكر الحكيم في نفوسنا انطلاقا من أن كل شيء يؤكد السيطرة المطلقة لله الواحد الأحد رب الأكوان والمخلوقات جل جلاله.وأريد هنا أن أوجه الاهتمام على الدور الأشمل للحدس اللامحلي في رفع الوعي البشري ودور القلب في هذه العملية حيث يرى مع مجموعة من الباحثين أن المقدرة على استقبال ومعالجة المعلومات عن الأحداث اللامحلية تبدو من خصائص الأشياء والمخلوقات الحية ولقد أبحر في هذا العلم علماء الأحياء والجيولوجيون فيما يخص أبحاث التنبؤ بالزلازل والبراكين والكوارث الكونية، وما هذا إلا لوجود ظاهرة كونية هامة جدا وهي وحدة الأشياء في هذا الكون، والذي يشير بقوة إلى وحدة الخالق عز وجل، والمولى عز وجل يقرر هذه الحقيقة الكبرى في شواهد قرآنية كثيرة منها قوله سبحانه: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) «18» آل عمران.إن القدرة على التحول إلى حالة الطمأنينة تمثل عاملا هاما عند التفكر في دور القلب البشري في رفع القدرات الإدراكية وأبحاث الحدس تشير بوضوح إلى أن القدرة على الولوج في العبقرية الحدسية بكفاءة تتم من خلال التحول إلى حالة التباين النبضي القلبي المتسق الذي نصفه بحالة الطمأنينة.كما أننا ومن خلال تجاربنا قد أثبتنا أن حالة الطمأنينة القلبية مرتبطة بحدوث تنبيه عصبي صاعد من القلب إلى الدماغ قبل حصول الحدث، ويبدو أن هذا التنبيه العصبي الصاعد من القلب للدماغ عامل هام في عملية الحدس التي تبدو أوضح في عملية التعرف على الأنماط المتباينة وأن ذلك التنبيه العصبي المذكور مرتبط بجميع أنواع الحدس.ومن المعلوم من خلال التجارب والممارسة على أرض الواقع أن القلب يلعب دورا محوريا في خلق حالة الطمأنينة وهو مرتبط بالمشاعر الودودة والتي تتسم بالإيجابية، وهنا ومن واقع ما تم طرحه مسبقا يتضح جليا أنه ليس من المستغرب أن يكون واحدا من الروابط الأقوى التي توحد الثقافات المختلفة والموروث الفكري على مر التاريخ البشري هو الاعتقاد بأن القلب البشري هو مصدر الحكمة والمحبة والقدرة على الإحساس بالأحداث المستقبلية قبل حدوثها وبث المشاعر الإيجابيه للآخر وإحداث حالة من الرنين الكوني المتسق مع رنين الخلايا القلبية والعصبية للإنسان.وبالرجوع إلى المراجع الطبية الكبرى في علوم طب القلب يتوضح الأثر الكبير للفكر المادي للقرن العشرين الذي يؤكد كون القلب مضخة فقط في معارضة فاضحة ليس للفكر البشري ما قبل القرن العشرين بل وحتى الكتب السماوية حيث التصريح غير القابل للشك في القرآن الكريم وصحيح السنة الشريفة بأن القلب موطن لاتخاذ القرار ومقر للكفر والإيمان ومستودع الذاكرة لأعمال البشر وأن القلب يزيغ ويطمئن، يقول المولى عز وجل: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) الحج الآية 46، ، ولما علم الحق تبارك وتعالى أن هناك من سيشكك في معنى القلب فقد ختم سبحانه الحقيقة ختما لا جدال فيه بقوله سبحانه: (القلوب التي في الصدور).وفي السنة النبوية الشريفة تفصيل لهذه المعاني وتكامل يجعل المتفكر في الأمر يسلم بلا جدال لكون القلب عقلا وملكا للأعضاء، تصلح كل أعضاء الجسد بصلاحه وتفسد بفساده، وأن عليه مدار الأمر كله وفي حديث النعمان بن بشير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)، ومن العجائب المبهرة أن هذا المفهوم الجليل والمتكامل للقلب البشري والذي غاب عن علماء طب القلب في العصر الحديث والذي نتلمس عتبات حقائق علمه هذه الأيام من خلال مؤتمرات ملك الأعضاء، قد جاء جليا واضحا في الكتاب والسنة كما تبحر وتشعب في علومها علماء السلف وعلى رأسهم محمد بن محمد أبو حامد الغزالي، الذي عرف القلب تعريفا يتطابق بإعجاز مبدع مع ما بدأنا في فك ألغازه وفكره هذه الأيام، حين يقول معرفا للقلب أنه (لطيفة روحانية ربانية لها بهذا القلب الجسماني تعلق، وهذه اللطيفة هي المدرك العالم العارف من الإنسان وهو المخاطب والمعاتب والمطالب). وهذا الفكر المتجذر في فلسفة العقل الإسلاميه وهو ذاته المتعملق في ذروة البحث العلمي هذه الأيام هو ما نراه عزيزي القارئ ضرورة قصوى لأن يفعل في حياتنا اليومية لنرتقي ونسمو كما هو الصقر في علو السماء لنرى الأشياء كما هي بلا إرجاف ولا تهويل.* عضو المجلس العلمي لمبادرة الوئام لكوني GCI (كاليفورنيا)