د. عبدالعزيز الأحمد

نصف القوت راحة..!

ضمني مجلس قبل فترة مع بعض رجال الأعمال فشكا أحدهم من الضغوط وكثرة الأشغال، وآخر يشكو من تعدد المشكلات وتزايدها إضافة لهموم العاملين؛ وآخر بدأ يتكلم عما يعترض الاقتصاد من ركود خاصة في ظل هذه الأوقات وأن ذلك ولد لديهم حالة من الارتباك. بعد ذلك سألتهم سؤالين محددين: هل تملك الآن من المال ما يكفيك وأولادك لعشرات السنين، فقال نعم وزيادة، وبمثل ذلك أجاب الآخران، ثم سألتهم السؤال الآخر: كم يستغرق عملكم اليومي من وقتكم؟ فأجابوا: إننا نعمل صباحا ومساء يوميا بمكاتبنا، ولدينا سفرات عمل متعددة، ثم تبادلنا الحديث حول ما يعانون من أمراض فأجمعوا بأنهم يعانون عدة أمراض على رأسها؛ الضغط، والسكر، وارتفاع الكولسترول ثم اختلفوا بوجود أمراض أخرى..؛ بعد ذلك سألتهم سؤالا لو طلب من أحدكم ربع ما يملك أو نصفه لأجل شفاء أمراضه، فقال أحدهم: بل ابذل ربعه أو نصفه لأجل مرض واحد فكيف بجميعها، وأيده البقية.وفعلا ما قالوه حق لكنهم اكتشفوه متى؟ بعد ٥٠ أو ٦٠ سنة..! لماذا لم يصلوا لهذه الحقيقة وهم في شبابهم! نعم إنها فورة الشباب، وحب الطموح، وحب التملك والتكثر.. وذلك كله حسن وجميل، لكن غاب عنهم أمران أساسيان: التنظيم المبكر وترتيب الأولويات، مع التوسط والاعتدال في تحقيق الحاجات العبادية، والنفسية والصحية، والاجتماعية، والاقتصادية، ومادام الانسان شابا نشطا فهو لا يحس بخطورة ضغط العمل عليه مع أنه ينهش نفسه، ويأكل أجهزة جسمه شيئا فشيئا، تماما مثل سيارتين إحداهما تستخدم أوقاتا معينة وتريّح أوقاتا أخرى، وأخرى تستخدم معظم الوقت كسيارة الأجرة، حينئذ يتضح لك الفرق بينهما من مجرد النظرة الأولى على شكلها الخارجي فما بالك بأجهزتها الداخلية! وهذا مثل الإنسان؛ الذي يعمل الصباح والمساء ولا وقت له لصحة جسمه ورياضتها، وجلسة مع والديه وزوجته وأولاده، والصلوات والأذكار يعطيها أطراف أوقاته، لا شك سيكون جسمه ونفسه مثل تلك السيارة المكدودة التي لا تسر الناظرين، وتتكاثر أمراضه مع مر السنين، ثم قلت لهم إن ما أقوله لكم ذُكر في السنة النبوية، وأكدته الدراسات، وشهد له الواقع، ففي السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم «قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما آتاه» ومعنى الفلاح الذي في الحديث هو اسم جامع لحصول كل مطلوب ومحبوب، والسلامة من كل مخوف مكروه، ومن أعظم المطلوب «صحة القلب بالسعادة، وصحة الجسد بالعافية» وذلك يتم بالإسلام، والرزق الذي يكفي ولا يلهي، والقناعة التي تريح النفس عن الطمع في المفقود والبخل بالموجود، والدراسات أكدت أن معظم الأمراض «النفسجسمية» كالضغط والسكر والقولون وغيرها سببها المباشر «كثرة الضغوط والهموم» ومما يغذيها «الطمع في المال والتكثر من الدنيا وتعدد المشاغل بشكل كبير» والواقع والأحداث والتجارب تبين بما لا يداخله شك أن زيادة الدنيا لدى المرء تأخذ مقابلها صحة ووقتا إلا من احتاط منها في صغره ونظم أموره في شبابه، وإلا فإنها ستغمسه في أوديتها الفاتنة فما يخرج منها إلا منهك الجسم.. متعب النفس.. ثم يموت مودعا الدنيا لا يأخذ منها سوى قماش لا يساوي ٢٠ ريالا.. فقال أحدهم والله هذه الحقيقة تمنينا لو سمعناها قبل ٤٠ أو ٥٠ عاما وصدق آباؤنا وأجدادنا الذين يقولون: نصف القوت راحة..!