د.قيس المبارك

تصرُّفات الصغير المميِّز 1-2

خصَّ اللهُ الإنسانَ من دون غيره من سائر المخلوقات، بصفةٍ ثبتت بها صلاحيتُه لثبوت الحقوق له وثبوتها عليه، فيثبت له بسببها النَّسب، وبسببها يرثُ ويَقبل الهبة والهدية، وتثبت عليه بسببها الزكاة، وكذلك يلزمه تعويض الغير عن الأموال التي يتلفها، وهي صفة ثابتةٌ للإنسان مادام حياً، بل تثبت له وهو جنين في بطن أمه، ويسمِّيها الفقهاء «أهلية الوجوب» فالجنين له ذمَّةٌ نِيْطتْ بها أهلية الوجوب، فيثبت له بسببها حقُّ العصمة، فيحرم الاعتداء عليه بالإجهاض، فإذا وُلِدَ اكتملتْ أهليَّته، وثبت له حقُّ تَملُّك الأشياء، ثم إنَّ الشَّرع الشريفَ أثبتَ للإنسان أهليَّةً أخرى، وهي صلاحيته لصدور التصرفات منه، وهي أهليةٌ لا تثبت للإنسان إلا في سنِّ التميز، ذلك أنَّ الشأن في الإنسان العاقل السَّويِّ، أنه يملك قدرةً على أنْ يتصرف التصرف الذي يحقق له مصالحه، ويدفع عنه المفاسد، وهذه فطرةٌ فطر الإنسان عليها، وهي صفة قدَّرها الشارع في الآدمي، تجعل تصرفاتَه ماضيةً وصحيحةً، يُسمِّيها الفقهاءُ «أهليَّة الأداء» فالإنسان له عقلٌ نِيْطتْ به أهليةُ الأداء، فيثبت له بسبب العقل مباشرة التصرفات، مثل أداء العبادات، وسائر التصرفات كالبيع والشراء وغيرها، فالعقل ميزانٌ ضابطٌ للتَّصرُّفات، فإذا اختلَّ هذا الميزان في الإنسان، فربّما أدّاه ذلك إلى أعمالٍ تعود عليه بالضرر، في ماله أو عقله أو نفسه، وقد اقتضتْ حكمةُ الباري أنْ يُـبطِلَ جميع التصرفات الصادرة ممَّن عَدِم وَصْف أهلية الأداء، وبيان ذلك أن الفعل لا يكون معتبراً شرعاً إلا إذا كان بقَصْدٍ مِن المكلَّف، ولا يُتصوَّر وجودُ هذا القصد ممن لا يَفهم خطاب التكليف، فبالعقل يدرك الإنسان مراد الخطاب ثم يقصد إلى فِعْلِ مُقتضاه، ومن أجل هذا فقد أسقط الشارع الحكيم أهليةَ الأداء عن المجنون وعن الصَّبِيِّ غيرِ المميِّز، وعن الحيوان، لأن هؤلاء جميعاً لا يُدْرِكون مرادَ الخطاب، فلم يَصحَّ عنهم قصْدٌ إلى امتثالِ أمرٍٍ، ولا إلى اجتناب نَهْيٍ، وهذا مِن رحمة الله بالصغير، وإنما جعلتْ الشريعةُ الإسلامية الصِّغَرَ سبباً تثبت به ولاية الغير على الصغير، فجعلت للصغير ثلاثة أحوال، يبدأ الحال الأول مِن حين يولد الإنسان، فمتى استهلَّ الجنيُن صارخاً بعد الولادة أصبحت له ذمَّةٌ مطلقة، فصار أهلاً لوجوب الحقوق له ووجوبها عليه، ويستمر هذا الطور حتى يصل الطفلُ إلى مرحلة ما قبل التمييز، أي قبل السابعة من عمره، أما أهلية الأداء فهي مفقودة في الطفل غير المميِّز، فأبطلت الشريعة الإسلامية سائر تصرفاته، فلا يصح منه بيعٌ ولا شراءٌ ولا غيرهما، فالطفل في هذه المرحلة لا يعقل، ولذلك فإن عبارَتَهُ وجميعَ أقواله هدْرٌ، لا يترتَّب عليها حكم، وإنما أناطت الشريعة الإسلامية هذا الإذن بوليِّه، والحال الثاني هو ما بعد التمييز، ويبدأ هذا الحال من سنِّ التمييز حتى مرحلة البلوغ، فإذا كبر الصغير وبدأ عقلُه يتكامل ويبصر، ويفرق بين الحَسَن والقبيح، وأصبح قادراً على التمييز بين ما فيه منفعته وما فيه مضرَّتُه سُمِّي مميِّزاً، لأنه صارَ أهلا لفهم خطاب التكليف، ذلك أنه يكون قد أصاب ضرباً من أهلية الأداء، لكنها أهليةٌ قاصرة، لأن مبناها على العقل القاصر، فعقل المميِّز غضٌّ لم يَنْضَج بعد، فوجودُ وَصْفِ الوَعْي والعقل، يمنع من إبطال تصرفاته، ووجودُ وصف الصِّغر يمنع اتصافه بالأهلية الكاملة، فالصِّبا عذرٌ تَسقط به كثير من الحقوق، كالعبادات والحدود والكفارات، لأن في عدم إسقاطها حرجاً على الصَّبي، والله تعالى يقول: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) وقد جاء عن عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه: (أما علمتَ أنَّ القلم مرفوع عن ثلاثة، عن المجنون حتى يبرأ وعن النائم حتى يستيقظ وعن الصَّبِيِّ حتى يعقل) ومن حكمة الشريعة، أنها جعلتْ مناطَ التمييز ظهور علامات الرُّشد وآثاره، كالتمييز بين ما يضرُّ وما ينفع، غير أنَّ هذا التمييز يختلف من طفل إلى آخر، فقد يبكِّر عند بعض الأطفال ويتأخر عند آخرين، وبذلك يتعَذَّرُ ضَبْطُه، وتتشابه علاماته بأواخر طور الطفولة التي قبله، فأقام الفقهاءُ سنَّ السابعةِ مقام ظهور آثار التمييز، استئناساً بقوله صلى الله عليه وسلم: (مُرُوا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين) فهل تصحُّ تصرُّفات المميِّز مِن بيع وشراء وغيره؟ ومثال ذلك: لو أنَّ صغيراً له من العمر عشر سنين، ولديه مالٌ ورثه من أبيه مثلاً، وأَحبَّ شراءَ هديَّةٍ لزميله، هل يملك أنْ يُهدي مِن مالِه؟ هذا موضوع المقال القادم.