نجيب الزامل

سلموا لي على السلموني.. «مستشفى الجواهر»

.. بمستشفى الجواهر وعيت درسا وهو: «أهم شيء، أن تحافظ على أهم شيء، ليكون دومًا أهم شيء!»نواجه قلة المورد المالي بمرافق عدة، وهذا يجب أن يكون تحديا للعقول للتحايل الذكي والجميل لتشخيصٍ دقيقٍ لهرم الأولويات، والتركيز على جوهر العمل سليما لا يُمَس. فالجوهرة بزمن المال والوفرة نحفظها بصندوق عادي نادر، أو تحفة بأثمان باهظة. لما يأتي زمن التحدي أهم شيء أن تبقى الجوهرة بكامل حضورها وألقها بغض النظر عن العلبة التي تحملها حتى ولو كانت قطعة كرتون. هنا التحدي العقلي والمبدأي والأخلاقي والغوص ببحر المسؤولية الذي يحتاج غواصا ماهرا يعرف كيف يستفيد من كل ذرة أكسجين للوصول لأقصى عمق ممكن. بوجود شحٍّ بالمورد المالي..تكون المسألة هي كيف نستفيد من كل ريال لآخر هللة من أجل الحفاظ على جوهر الخدمة، ولا يهمني إن رُصفت الممرات رخاما يونانيا، أو بلاطا مصنعا جوار بيتك.في مستشفى العيون بالظهران وعيت هذا الدرس بمسألة «أهم شيء يجب أن يبقى أهم شيء». وسميته مستشفى الجواهر لأن عينيك هما جوهرتاك الأثمن، ولأن المستشفى يتعامل مع هذه الجواهر كخبير جواهر يقدر قيمتها وربطها بعناصر الكون التي تبقينا أحياء على الأرض بنعم المولى. يا جماعة إن أهم ما بحياتنا لا ندفع مقابلا ماليا له، وتقع هرميا بوضع «الشيء الأهم» فالهواء ونور الشمس وسكون الليالي من أهم الأشياء ولا ندفع لها مقابلا ولا رسوما وضرائب تتراكم. كذلك الأخلاق وحسن الاستقبال والانضباط الوظيفي وإدراك حرفية المهنة لا تكلف مالا، ولكنها «أهم شيء» خصوصا للمرضى. بالمستشفى التخصصي للعيون بالظهران تبدأ برجل الأمن بلباسه النظيف وتعامله الراقي لفظا وأداء وبشاشة مع الصرامة الشخصية المطلوبة لوظيفته، رجال أمن المستشفى أول من لفتوا نظري وكأنك تدخل مجمعا تجاريا راقيا يحرسه رجال متخصصون ومحترفون. في الاستقبال الشباب جادون مؤدبون لا يتبادلون حتى الحديث العادي بينهم كما ببعض المرافق أخرى. هذه كلها «أهم الأشياء» ولا تدفع إدارة المستشفى ريالا واحدا فيها، على العكس هي بلغة الاقتصاد قيمة مضافة ترتقي بالمستشفى.لما دخلت مع مجموعة مرضى للطابق الثاني لغرف قبل العمليات، حرص بأدب جمّ بنات الاستقبال أن نقف بالدور، وسارت الأمور كساعة سويسرية، فتناديك موظفة الاستقبال بألقاب مؤدبة، وتأخذك أخرى لغرفتك، وبالغرفة تأتي الممرضات والأخصائيات الاجتماعيات والمثقفات الصحيات بانضباط وجدية ومهارة في معرفة العمل والعلم، ذكرنني بأفضل الممرضات العالميات لما تنومت يوما بأحد أفضل مستشفيات المملكة. جاري رجل كبير لا يسمع وخائف وترددت عليه الممرضة مرارا وتكرارا تناديه بعم أبو فلان، ولم تتركه حتى جعلته يكرر ما فهمه، وصفقت من غير إرادتي، فخرت بزهراء1، وزهراء2، كما سميتهما وبمعصومة وفاطمة ووفاء، وبالعمليات كانت الحكاية:تسلمتني زهراء وسلمتني لممرضات سعوديات بقراءة فاحصة للملف والتدقيق بهويتي ومكان عمليتي ليس مرة ولا مرتين بل ثلاث مرات. ثم دخل الطبيب النادر الطراز أخلاقا وعلما ومهارات د محمد السلموني (كلها بلا ريال واحد إضافي) نصف ساعة وهو يجري مبضعه بجوهرتي اليمنى. ويا.. الله، طيلة الوقت، يتلو الآيات، ويردد الدعوات، ويضيء صوته بِـ «الله أكبر» ليوحي لك أن العملية تجري أفضل من المتوقع. لولا أنها عملية لقلت للدكتور السلموني.. لا تقف!المستشفى عمره قارب الخمسين عاما، ولكن الدكتورة إيمان الملا واحدة من أفضل الإداريات، بل إني قلت لها يا دكتورة خففي حماسك عن السعي للكمال، فالمستشفى نظافته لافتة، وذاك الجو اللطيف لما تدخل المستشفى وكأن كل طوبة به تقول: «لا تقلق، ستكون بخير».عبدالعزيز الأحمد وجه علاقات المستشفى، ترك ما يدر مالا أكثر الكتابة الصحفية الرياضية ليكرس نفسه «لأهم شيء».. لماذا؟ لأنه انضم بكل حماسته ووجدانه للغوص نحو الأفضل.. بحثا عن الجواهر التي لا تكلف ريالا واحدا، ولا تقدر بأثمان الأرض!.