فهد السلمان

الكنز والوَسَخْ والاختبار الصعب

احتجتُ لحوالي ستين عاما لأكتشف أكذوبة «إن المال وسخ دنيا»، والتي تصطفّ كتفا بكتف مع مقولة «القناعة كنزٌ لا يفنى»، وهذه الأخيرة لي معها حكاية حينما كنتُ في أواخر صفوف المرحلة الابتدائية، ربما الرابع أو الخامس.. لا أتذكر، حيث قرر معلم الخط أن يعاقبني لذنب اقترفته حينها، فكلفني بكتابة ذلك الأثر 99 مرة، وبخط النسخ، أتذكر أنني فقدتُ الاحساس تماما باصبعي الوسطى جرّاء التحام القلم بها، ومن المؤكد أنني لم أتمّ العقوبة لانتهاء الحصة، وكان يُفترض تبعاً لهذه الذكرى المؤلمة أن يكون حدّ الله ما بيني وبين هذه الحكمة، إلا أن قوة ضخ ثقافة التزهيد بالمال في الثقافة الاجتماعية، والحث على القناعة، يبدو أنها كانت أقوى مما تبقى من أثر العقوبة، بحيث ظلّتْ السيادة المطلقة لمفهوم إن المال وسخ دنيا، رغم أن القرآن الكريم يضعه قبل الأبناء في استعراضه لزينة الحياة الدنيا، ورغم أنف المتنبي الذي بُحّ صوته: «إذا غامرتَ في شرفٍ مروم.. فلا تقنع بما دون النجوم». وسذاجتي هذه أنموذج فقط لشريحة كبرى في هذا المجتمع ممن لا يزال «وسخ الدنيا» يكيل لهم الضربات الواحدة تلو الأخرى، حتى يُدمي أنوفهم، ويقصّ أجنحتهم، وبعض تلك الضربات ربما جاءتْ تحت الحزام دون أن تجعلهم يفيقون ليدركوا أنهم وقعوا ضحية خدعة كبرى، تقف خلفها أيادٍ خفية لا تزال تستثمر سذاجة جموع أمة النظافة (!)، لتذهب هي بالدثور والأجور، وتترك للآخرين أن يحفروا في أكداس الفقر بحثا عن ذلك الكنز المزعوم. ثلاثة أرباع هذا المجتمع إن لم يكن أربعة أرباعه إلا قليلا يعيشون على دخلهم الشهري الذي ينفد بتفاوت بسيط بين اليوم العاشر إلى منتصف الشهر، ليبدأوا العد «للموعد الثاني» مع خواء جيوبهم، وكل هذا بسبب سيطرة ثقافة وسخ الدنيا التي أحكمتْ الخناق على عقولنا، وساعدتها مدارسنا في تكرير حكاية الكنز الذي لا يفنى، حينما لم تتطوّع بتعليم طلابها أيّ شيء عمّا يُسمّى ثقافة الادخار، والتي يتعلمها كل تلاميذ العالم من أمريكا، إلى نيبال في مدارسهم. ربما كان على النظيفين أن يعودوا إلى عقولهم، و«يفرمتوها» ليفكروا قليلا دون قناعات معلبة، ويتساءلوا: من أجل ماذا كل هذه النزاعات، وهذه الحروب بين الدول، وبين الشركات، وبين الأفراد؟ أليس من أجل المال؟. بالتأكيد.. كل ما يجري على ظهر هذا الكوكب يقف وراءه المال بشكل أو بآخر، فلماذا تمّ تغييب هذه الثقافة عن العامة الذين يتجرعون المر مقابل اجراءات التقشف التي أخلّتْ بتوازنهم، لأنهم من الأساس لم يتهيّؤوا لمثل هذا الظرف الاستثنائي، مع أن المال وعبر التاريخ ظل يحتفظ بمركز الصدارة، فيما احتكر أصحابه الصفوف الأمامية كل الواجهات في مجتمعاتهم، حتى أولئك الذين لا يساوون في ميزان القيم فص بصلة ممن زيّنهم وسخ الدنيا ولمّع وجوههم، ومع هذا تُصرّ ثقافتنا المحلية وبوازع بناء القيم على أن تسميه «وسخ دنيا» في أغبى طريقة لفرملة الجشع الذي يمضي مسرعا رغم أنفها لينهب اللقمة من أيدي الفقراء دون أن يرفّ له جفنٌ أو يتعرّق له جبين.