د.ابراهيم العثيمين

الملك عبدالعزيز.. عبقرية التأسيس

في مقدمة كتاب «لسراة الليل هتف الصباح.. الملك عبدالعزيز دراسة وثائقية» للشيخ عبدالعزيز التويجري - رحمه الله - نائب رئيس الحرس الوطني وأحد رجالات الدولة المخلصين، التي كتبها الاستاذ محمد حسنين هيكل - رحمه الله - اكثر الشخصيات - للأسف - انتقادا وتحاملا على المملكة، الا انه عندما جاء الحديث عن المؤسس توقف، وقال: «إن الملك - عبدالعزيز- أسس دولة وأنشأ نظاما، وتلك مهمة تعهد بها المقادير لرجال لا يتكررون بسهولة، ذلك أن تأسيس الدول وإنشاء النظم يحتاج - أول ما يحتاج - إلى إرادة تستطيع في لحظة استثنائية أن تحرك التفاعل الكيميائي الخلاق بين الجغرافيا والتاريخ ما يولد ويفجر طاقة فعل هائلة. إن الملك عبدالعزيز بكل المعايير شخصية تاريخية كبيرة ضمن مؤسسي الدول ومنشئي النظم». نعم الملك عبدالعزيز هو قائد مسيرة التوحيد والبناء، فقد استطاع بعد سنوات من المعارك والحروب ان يوحد أجزاء الجزيرة العربية بأكملها من الشرق الى الغرب ومن الشمال الى الجنوب، وان يؤسس أكبر مملكة عربية وسط ظروف محلية وإقليمية وعالمية بالغة الصعوبة. وقد قال الملك عبدالعزيز يوما لـ «السير جليبرت كلايتون Gilbert Clayton - الجنرال البريطاني»: «إن الإمبراطورية البريطانية بلغت ما بلغت برجال أكفاء أمثالكم». فرد كلايتون مجاملا الملك عبدالعزيز: «نعم ما ذكرته صحيح، لكن ملك بريطانيا الواسع لم يؤسس إلا في مئات من السنين، ونحن معجبون بك يا عبدالعزيز، فانت في ثلاثين سنة قد أسست ملكا واسعا، وإذا استمر لك هذا التقدم فاظن أنه في نصف المدة التي أسسنا فيها ملكنا ستؤسس أنت امبراطورية مثل او أكبر من بريطانيا، وهذا ليس ببعيد، فأسلافكم العرب قد شيدوا إمبراطورية عظيمة في مدة قصيرة. فرد عليه الملك عبدالعزيز مرة ثانية في حذر، وقال: هذه - وإن كانت أمنية العرب - لكنني لا أعتقد في نفسي القدرة على تحقيق ذلك، وكل ما أتمناه أن يجعل الله من رجالنا من يماثلكم في الإخلاص والتضحية لبلادهم». إن الملك عبدالعزيز بحق واحد من أعظم الشخصيات التي ظهرت خلال القرن الماضي. قد كتبت قبل عدة سنوات عن المسار التأسيسي للمملكة، وها انا اعود اليوم الى بعض افكاره بشيء من التفصيل، لفهم عبقرية الملك عبدالعزيز في التأسيس فلابد من وضعه في سياقه التطوري التاريخي من خلال تمييزنا بين ثلاث مراحل اساسية: مرحلة بناء الامة، مرحلة بناء الدولة، ثم مرحلة تكوين النظام السياسي.أولا: مرحلة بناء الأمة Nation-Building: وهي توحيد الجماعة الواقعة في المجال السياسي من خلال عملية الاندماج والتكامل الاجتماعي، علماء السياسية والاجتماع يجمعون على ان عملية الانصهار الوطني تعتبر الخطوة الأولى في بناء الدولة. كارل دويتش k.deutsh، أحد المنظرين الأوائل الذين اهتموا بالتكامل الجهوي خاصة في تركيزه على التجربة التكاملية التي تمت في أوروبا الغربية، يقول في كتابه «القومية وبديلاتها»: «إن فكرة الاتصال الاجتماعي بين أفراد المجتمع الكلي بكافة أجزائه ومكوناته وهياكله يعتبر حجر الأساس لتحقيق الانصهار الاجتماعي ومن ثم السياسي»، وعليه فقد تمكن الملك عبدالعزيز من انجاح عملية الانصهار الاجتماعي، وبالتالي تحقيق الانصهار الوطني، من خلال تبنيه سياسيات التوحيد الاجتماعي ودمج الشرائح المختلفة من المناطق المختلفة في بوتقة واحدة، حيث تعكس هوية الدولة. ويعتبر مشروع توطين البادية في الهجر وتعليمهم جنبا إلى جنب مع تبني سياسات التوظيف والتغلغل الحكومي والاتصال الجماهيري والمواصلات، من أهم المشاريع التي ساهمت في عملية الانصهار الوطني، حيث ساهت هذه السياسة في وضع اللبنة الاولى في تحويل انتماء الفرد «القبلي» وتوجيه شعوره وانتمائه وولائه الى القيادة المركزية، وهو ما يسمى الاعتراف السياسي الشامل وإنهاء أزمة الذات والشرعية.ثانيا: مرحلة بناء الدولة State-Building: ولكي يكرس مفهوم الأمة فلابد من تعميق دور الدولة. ماكس فيبر Maximilian Weber لم يجد من خاصية يعرف بها الدولة غير «احتكار الاستعمال المشروع للعنف» فوجود الدولة عبر تاريخها كما يرى فيبر يعني وجود تنظيم وتجمع سياسي له الصلاحيات والسلطة التي تمكنه من فرض الاوامر والزام الناس بالطاعة. فالدولة تتمتع بسلطة قسرية وقاهرة تمنع فوضى الغاب، وكما يؤكد هذه الفرضية فرانسيس فوكوياما Francis Fukuyama، في كتابه «بناء الدولة الحكم والنظام العالمي في القرن الواحد والعشرين» حيث يرى أن جوهر الدولة هو في مقدرتها على فرض قرارها بالقوة، وهذه القوة هي التي تسمى الآن «القوة المؤسسية». ففي مرحلة التأسيس حرص الملك عبدالعزيز على إعطاء دور هام لبناء وتطوير مؤسسات الدولة خاصة السيادية منها ذات الطبيعية التشريعية والتنفيذية، فمن وزارة واحدة عام 1351 إلى تسع وزارات عام 1352، وبالتالي نمت مؤسسات الادارة والتنفيذ (الجهاز البيروقراطي والشرطة والجيش) ما ادى الى تغلغل اجهزة الدولة في مختلف اوجه النشاطات الاجتماعية والاقتصادية، ومن ثم تنظيمها من خلال اساليب قانونية ومالية محددة. ثالثا: مرحلة تكوين النظام السياسي Formation of a Political System: تتسم هذه المرحلة بالتركيز على عملية المشاركة السياسية في مراحل صناعة القرار من قبل القوى الوطنية وتأكيد دورها في رسم السياسات الوطنية، وتبعا لتعريف صموئيل هنتنغتون Samuel Huntington، فإن المشاركة السياسية تعني تحديدا: «ذلك النشاط الذي يقوم به المواطنون العاديون بقصد التأثير في عملية صنع القرار الحكومي، سواء أكان هذا النشاط فرديا أم جماعيا، منظما أم عفويا، متواصلا أم منقطعا، سلميا أم عنيفا، شرعيا أم غير شرعي، فعالا أم غير فعال». فقد حرص الملك عبدالعزيز في مرحلة التأسيس على تفعيل المشاركة السياسية من خلال تأسيس اول مجلس منتخب عام 1924م اطلق عليه مجلس الأهلي الشوري برئاسة الشيخ عبدالقادر بن علي الشيبي، ولما كان بناء الدولة لم يكتمل، فقد نيط بهذا المجلس تنظيم مواد أساسية لإدارة البلاد، ورغبة في توسيع دائرة المشاركة، فقد تم استبداله بمجلس اخر له صلاحيات اكبر. واستمر مجلس الشورى في تطور حتى وقتنا الحاضر وهو لايزال يحتاج الى مزيد الصلاحيات ليتواكب مع التطورات الجارية، الا ان تأسيس المجلس بناء على المعطيات السياسية في تلك الفترة، والظروف الداخلية والخارجية التي حكمت تعتبر خطوة مهمة في المشاركة السياسية، وقد سمحت هذه التجربة بنوع من تعددية القنوات لصناعة القرار في الدولة. أخيرا: في الحفل التكريمي الذي أقيم على شرفه بمناسبة سفره إلى الرياض، قال الملك عبدالعزيز - رحمه الله - في خطابة: (إن على الشعب واجبات وعلى ولاة الأمر واجبات.. أما واجبات الشعب فهي الاستقامة ومراعاة ما يرضي الله ورسوله ويصلح حالهم والتآلف والتآزر مع حكومتهم للعمل فيما فيه رقي بلادهم وأمتهم. إن خدمة الشعب واجبة علينا، لهذا فنحن نخدمه بعيوننا وقلوبنا ونرى أن من لا يخدم شعبه ويخلص له فهو ناقص). هذا هو المنهج الذي انتهجه المؤسس - رحمه الله - وسار عليه ابناؤه من بعده. رحم الله الملك عبدالعزيز رحمة واسعة، واسكنه فسيح جناته، وغفر له.